هنا القاع… شهادات موجعة بعد 45 عاماً

تاريخ من تاريخ…

لأننا واجهنا ببسالة دفاعاً عن لبنان، ولأننا نصرّ على بناء الدولة وعلى ألا يتكرر الماضي، نسترجع من ذاكرة الزمن أحداثاً خبرناها، لتكون العبرة لمن اعتبر.

نعم، هي الذكرى للعبرة وليس استفزازاً، الذكرى للقاء عابر مع أبطال صنعوا مجد لبنان ويستحقون العودة إليهم عبر صفحات الوقت. الذكرى لتكريم من كانوا متراساً بأجسادهم ليموتوا هم، ويحيا لبنان.

 

هنا وادي الرعيان، وهنا بلدة القاع في ذاك البقاع الشمالي الحزين المناضل. هنا بالذات، في تلك المساحة الخضراء، غرز الاحتلال السوري المتوحش 26 شهيداً، في أبشع ما يمكن أن تكون عليه وحشية الإنسان ضد أخيه الانسان. هنا تجسّدت وبنجاح منقطع الهول، مجزرة القاع “الأولى” في حزيران من العام 1978. نعم، الأولى لأنه وبعد 38 عاماً بالتحديد، وفي 27 حزيران أيضاً من العام 2016، تمّت أيضاً و”بنجاح” كبير، المجزرة الثانية على أيدي تنظيم داعش الإرهابي. أي قدر هذا الذي جعل من القاع أنشودة الشهداء، أما حان الوقت لأن تتحول الى أنشودة العدالة أيضاً؟

كأن الزمن تجمّد هنا في هذه الساحات الفسيحة المتعالية على ألمها. كأن سيف مار الياس شفيع الضيعة، توقف عند حدّ الشمس تماماً، في انتظار أن يأمر الرب وينهال فوق رأس الظلم ويعيد الحق مضاعفاً لأصحابه. الحق؟ “وين بعد في حق وأهلنا راحوا؟” يقول أحد أبناء البلدة الذي استشهد عدد من أقاربه في مجزرة العام 1978.

“كنت بعمر الـ12 لما حصلت المجزرة. استشهد في بيتنا ثلاثة من أخوالي، ميلاد ورياض وجورج الحاج نصرالله. عند الصباح طلبوا خالي الصغير للذهاب معهم، قال له الجندي السوري، الرائد عايزك، فرفض إخوته ذهابه لوحده وكانوا جميعاً طلاب جامعة يتحضرون لامتحاناتهم، رافقوه وما عادوا ولم تتجاوز أعمارهم العشرينات”، تقول يولا سعد ابنة القاع التي سكنتها تلك الذكرى كما تسكن وجدان كل أبناء القاع. “والدتهم أمضت حياتها بالنواح غير مستوعبة ما حصل، عاشت ثلاثين عاماً من بعدهم بالحسرة وبقيت مع والدهم تنزل يومياً الى المقبرة تأخذ لهم القهوة والثياب الى أن عجزا بسبب العمر عن الذهاب، تقول يولا.

هل غفر أهل القاع لمن تسبب بتلك المجزرة؟

“الجرح عميق جداً جداً، نحن مجروحون في صميم الصميم الى درجة أننا لا نستطيع أن نغفر، ما يجرح أكثر أن الجنود السوريين قتلوهم صحيح، لكن من أبلغ عن أماكنهم كانوا من أبناء البلدة، فكيف نغفر لهؤلاء؟ بيت أهلي بعدن لليوم عايشين معنا، ما مننساهن، ذكراهم ليست مجرد ذكرى، لأنهم أحياء عن جد في قلوبنا، الله لا يجرب حدن بتجربة مماثلة، خسرنا البيت كله ونحتاج الى فائق قدرة والكثير من الإيمان والتجرد لنتمكن من المسامحة”، تقول يولا.

خمسة وأربعون عاماً من انتظار العدالة، والعدالة البطيئة لم تصل بعد، ولا تريد أن تصل! أهل القاع يعرفون من خطط ونفذ المجزرة. تلك الدولة العقيمة تعرف تماماً من خطط ونفذ ومن صمت وتماهى في تغطية المجزرة، ويريدون لها أن تموت في النسيان، يريدون ارتكاب مجزرة فوق المجزرة.

هنا القاع ليل 28 حزيران 1978، قرعت الأبواب بالجملة، “فلان موجود؟” ردّ الأهالي بخوف واستهجان “نعم شو بتريدو؟” وبكل لياقة وأدب أجاب ذاك الضابط السوري الخبيث الذي كان برفقة لبناني أخبث، “ما تقلقوا بيروحوا معنا شوي ع المركز، تدابير أمنية روتينية وبيرجعوا الصبح وما تواخذونا ع الإزعاج”! ستة وعشرون بيتاً دخلوها بالأسلوب “المهذّب” إياه، وبرفقتهم شبّان لبنانيون من أحزاب يسارية أرشدوهم الى تلك المنازل بحسب اللائحة السوداء التي حملوها. اقتيدوا في شاحنات عسكرية الى المجهول، حلّ الصباح ولم يأتِ الشباب بعد، لم تنم القاع ليلتها ولا رأس بعلبك المجاورة ولا جديدة الفاكهة، القرى التي تنتظر عودة أبنائها، وعند الظهر ذهب كاهن الرعية الأب ميشال بركات الى الجهات الأمنية لمعرفة مصيرهم، وهو في الطريق رآهم، رآهم هناك في وادي الرعيان، رآهم وقد نكلوا بجثثهم المغروزة حقداً في التراب، رآهم في السهل الواسع الذي بدل أن يُزرع سنابل قمح ومواسم بركة، كان مزروعاً من أشلائهم، وعاد الى القرية وصرخ في ساحتها صرخته الشهيرة، “صرخوا وشقوا تيابكن قتلوا ولادنا”، والحصيلة كانت 15 شهيداً من القاع، ستة من رأس بعلبك، وخمسة من جديدة الفاكهة، صاروا جميعاً واحداً في الدم والاستشهاد. فكيف يمكن لأهل القاع أن ينسوا؟! ومرّ العمر 38 دورة، وفي حزيران 2016 سقط للقاع ستة شهداء بتفجيرات انتحاريين إرهابيين، أي قدر هذا يا الله؟

“هالشهر هو تذكار شهدائنا، صحيح أن الزمن جعلنا نتعود على فكرة موتهم، لكننا لم نسامح وتحديداً في مجزرة 1978″، يقول رئيس البلدية المحامي بشير مطر، ابن شهيد في تلك المجزرة. “المجزرة عايشة بعمر كل إنسان حي بيننا، لذلك جعلنا في حزيران عيداً للشهداء جميعاً إضافة لشهداء الجيش اللبناني. يستحق الشهداء أن تتوقف الدولة والعالم كله عند تلك المجزرة. نحن نسامح إذا الناس اعترفت بشهدائنا، وإذا توقف الآخرون عن مقولة، نحنا ما أخدنا بالتار، شهدؤانا أكبر من الكل ومن ينكرهم ننكره. نحن عندنا اتهام مباشر لذلك فليفتحوا تحقيقاً مع النظام السوري المنفذ للمجزرة لأن جيشه النظامي أخذ الشباب ونكّل بهم”، يقول مطر بغضب شديد ويعرب عن عتبه الكبير على الدولة والإعلام.

“مجزرة القاع لم تُحل الى المجلس العدلي لماذا؟ لا أحد يتكلم عنها وكأننا غرباء عن الوطن، لن نسمح بأن يشمل العفو العام مجزرة مماثلة، لن ننسى ولن نقبل بأن نكون صندوق بريد للانتقام، نريد المسامحة لكن لا نستطيع حتى اللحظة لأن ثمة طرف آخر يزايد علينا. التجاهل هو دوس على الكرامة، كيف يعقل أن مجزرة بحجم القاع تُطمس عمداً وممنوع حتى التحدث عنها، لماذا؟ ما رح نسمحلن يهينوا كرامتنا، نريد فتح تحقيق جدي، وكرامتنا قبل الكل، فهذه المجزرة هجّرت 80 في المئة من أهل القاع التي صودرت أراضيها، ولليوم نعيش تداعياتها ونحاول استرجاع الأرض بشق الروح. أطالب بإحالة المجزرة الى المجلس العدلي، وهذا الكلام لا علاقة له بالبلدية، هو موقف شخصي صادر عن ابن شهيد وأقرباء شهداء سقطوا في المجزرة، كما سقط لكل أبناء الضيعة”، يقول مطر.

هنا القاع، وهنا مجزرة من تاريخ مجازر لبنان على يد جيش النظام السوري المتوحش. هنا مات الشهداء فعلاً، لأن قبل أن تروي دماؤهم الأرض، كانت العدالة سبقتهم الى القبر، ولا أحد دفن العدالة في لبنان الا أبناء من هذه الأرض قبل المحتل، جعلوا الشهادة بلاطة باردة فوق قبر مدمم بالعمالة والنكران.

المصدر

سعر صرف الدولار في لبنان اليوم لحظة بلحظة

«
زر الذهاب إلى الأعلى