الحرب خيار أخير.. أم “مفاوضات مباشرة”؟

لبنان اليوم

تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الأخيرة سلسلة من التسريبات التي تتفق، ظاهريًا، مع ما يعلنه “حزب الله” بشأن استعداده وتعافيه الميداني.

والمثير للاهتمام أن تل أبيب، على الرغم من عدائها لـ”حزب الله”، تشارك الحزب هذه الرواية، ربما لخدمة أهدافها الخاصة، وقد زادت حدة التشويق من خلال السماح لوسائل إعلامها بنقل ما أسمته “مشاهدات حيّة” لمستوطنين على الحدود مع لبنان، زعموا فيها رصد تحركات لعناصر “حزب الله”.

في الواقع، لو كنت مكان “حزب الله”، لتجنبت الحديث علنًا عبر وسائل الإعلام عن مسارات التعافي التي أسلكها وإلى أي مدى حققت نتائج، ببساطة لكي لا تُستخدم هذه المعلومات ذريعة ضدي، والتاريخ الحديث مليء بالتجارب.

على أي حال، من يتابع الإعلام الإسرائيلي، أو لديه خبرة بكيفية عمله، يدرك أنه يعمل على توظيف أهداف تخدم السلطة الإسرائيلية، وهذا ما يفعله الآن بالضبط، ومن اللافت أن الإعلام الإسرائيلي الذي بدأ الحديث عن احتمالات الحرب على لبنان مؤخرًا وعلى نطاق واسع، سبقه إلى ذلك بعض اللبنانيين الذين يفكرون في هذه الفكرة منذ توقف إطلاق النار يوم توقيع اتفاق 27 تشرين الثاني.

في الشكل، يندرج المشهد الحالي في سياق تهيئة الأجواء لعمل عسكري محتمل ضد لبنان، وتعبيراً عن هذا التوجه أو في سياق خدمته لكي يبدو حقيقياً، رفع العدو خلال الأيام الماضية درجة تأهبه ووسع نطاق الاغتيالات التي تستهدف مقاومين حتى زادت عن 3 عمليات في اليوم الواحد، ووصلت يوم أمس إلى منطقة البقاع بالتزامن مع الحديث عن وصول مبعوثين أمنيين إلى بيروت، تم تسريب أنهم يحملون معهم رسائل تحذير عاجلة من احتمال عودة إسرائيل إلى خيار الحرب.

في ضوء ذلك، فهم في بيروت أن هذا “التدفق الدبلوماسي الخارجي” يحمل هدفًا محددًا يكمن في حث لبنان على الكف عن المماطلة والانتقال سريعًا إلى مفاوضات مباشرة تحت سقف ما يُعرف بـ”مؤتمر شرم الشيخ للسلام”، الذي تمثله مجموعة من الدول تعرض نفسها اليوم كضامن لأي مسار تفاوضي جديد.

في العمق، تسعى إسرائيل من خلال بث أجواء التهديد بالحرب وتوسيع دائرة الاستهدافات الأمنية إلى خلق مناخ من القلق والضغط النفسي، سواء داخل بيروت أو في أوساط الطبقة السياسية، والهدف هو دفع الدولة إلى ممارسة ضغوط داخلية على “حزب الله” لاحتواء التصعيد، أو على الأقل، لتبرير دخولها في مسار تفاوضي علني “منعاً للحرب”.

لكن، وعلى خلاف الانطباعات المتداولة، يبدو أن الظروف الراهنة لا تسمح بحرب واسعة النطاق تتضمن قصفًا جويًا كثيفًا وتقدمًا بريًا وفق الشكل الذي ساد بين 27 أيلول و 27 تشرين الثاني الماضي، بل إن التقدير العام الحالي يشير إلى احتمالية أن تقوم إسرائيل بشن “ضربات خاطفة” تطال بيروت بهدف زيادة وتيرة الضغط واستثماره سياسيًا.

مثل الخيار “الحرب الواسعة” يستهدف عمليًا الدولة اللبنانية التي تحظى اليوم برعاية أميركية وأوروبية، وتُعتبر، في نظر هذه الدول، نقيضًا سياسيًا وعسكريًا لـ”حزب الله” ويجب دعمه وتوفير ظروف نجاحه، ومن غير المنطقي أن تشن إسرائيل حربًا على “تركيبة” تحظى بدعم هذه الجهات إلا إذا كانت هي نفسها موافقة على ذلك.

تاريخيًا، كان رفع منسوب التوتر الميداني في لبنان وسيلة لفرض وقائع سياسية جديدة أو لإرساء ضغوط داخلية تمهد لتغييرات في المسار اللبناني العام، واليوم، يبدو أن الجمع بين الضغط العسكري والدبلوماسي يهدف إلى خلق ظروف تدفع السلطة اللبنانية إلى الخروج من حالة المراوحة والقبول بفكرة المفاوضات المباشرة، تحت شعار “منع الحرب” أو “إنقاذ لبنان من عدوان وشيك”.

الواقع أن النظام اللبناني الجديد وجد نفسه عالقًا في عنق زجاجة المفاوضات، بين خيار التفاوض غير المباشر وخيار الذهاب إلى محادثات علنية تسمى مفاوضات مباشرة بصرف النظر عن الآلية، ويرى متابعون أن التردد نابع من خشية السلطة من انزلاق الوضع نحو صدامات داخلية أو شغب سياسي يظهر “الدولة الفتية” وكأنها عاجزة عن ضبط الأمور، ومن هذا المنطلق، قد يجد بعض الأطراف الخارجيين في التصعيد العسكري وسيلة لتوفير الغطاء الذي تحتاجه الدولة لتبرير إعلانها عن استعدادها للانخراط في مفاوضات مباشرة.

ولا شك أن إعلانًا من هذا النوع سيجد تأييدًا من كتلة سياسية واسعة في الداخل، بدافع الحرص على السيادة أو تحت شعار الواقعية السياسية، بما يُظهر الدولة وكأنها “مُرغمة” على التفاوض لتجنب الحرب.

لكن التجارب علمتنا أن الذهاب إلى التفاوض في لحظات الضعف ومن دون أوراق قوة، غالبًا ما يُفضي إلى تقديم تنازلات تمس السيادة الوطنية، كما يحدث اليوم في الحالة السورية.

أخيرًا، زادت إسرائيل من استهداف المؤسسات والمشاريع المرتبطة بورشة إعادة الإعمار، وتقصدت تدمير آليات ووسائل لوجستية تخدم هذا المسار، في الموازاة، تذهب واشنطن في سياق تشددها ماليًا وعلى نحو واضح، وتدفع مصرف لبنان إلى تحريك أصابعه تجاه ما يفترض أنه يغذي البيئة الشيعية بالسيولة، وفي القريب العاجل، سوف تختار واشنطن إعادة تفعيل “رزم العقوبات” كي تستخدم كعصا عليظة داخل المشهد اللبناني، كل ذلك يخدم نظرية فرض ما يشبه حصارًا مقنعًا، وعلى هذا النحو زيادة الضغط على الدولة اللبنانية أو فعليًا، زيادة الضريبة السياسية عليها، وهو ما لم يعد يخفيه ساسة وأركان!