
لبنان اليوم
بات الأمر محسومًا ولا مجال فيه للجدال.
“القوات اللبنانية” اتخذت قرارها بالمقاطعة، واختارت الغياب عن الجلسة التشريعية يوم الثلاثاء.
في الإعلام، يُصوَّر هذا القرار على أنه “موقف مبدئي”، لكنه في حقيقته إعلان صريح بانسحاب المعارضة من ميدان المواجهة، وتسليم مقاليد الدولة لمن يحسنون تسيير الأمور من وراء الستار.
“القوات” التي لطالما رفعت شعار “استعادة الدولة”، قررت اليوم أن تتركها في قبضة من استولوا عليها منذ سنوات طويلة.
تتبنى “المبدأ” كشعار، لكنها تغرق في أنانية مفرطة تخنق أي جهد للمعارضة وتحبط أي محاولة لتوحيد الصفوف.
لقد أصبح الغياب أشبه بطقس مقدس لدى قيادة “القوات”، وكأن المشاركة في العمل السياسي خطيئة، وكأن النضال يُقاس بعدد البيانات الصادرة لا بعدد المواقف العملية المتخذة.
منذ أشهر، لا نرى “القوات” إلا في موقع الرافض لكل شيء.
تقاطع هنا، وتنسحب هناك، ثم تعود لتتحدث عن “الانتصار الأخلاقي”.
لكن الحقيقة هي أن الانتصار الحقيقي هو للواقعية السياسية التي يتقنها خصومها.
فغياب “القوات” عن الجلسة لن يؤدي إلى فقدان النصاب القانوني، بل سيسقط المعارضة نفسها.
فالجلسة ستنعقد بحضور أكثر من 65 نائبًا، بينما ستبقى المعارضة في الخارج ترفع أصواتها عبر منصات التواصل الاجتماعي فقط.
نتيجة هذا الوضع هي أن “الثنائي الشيعي” سيجلس مرتاحًا في مقاعد السلطة، يمرر القوانين التي يريدها، ويدير الدولة وكأنها ملكية خاصة له.
الرئيس نبيه بري سيترأس الجلسة بثقة المنتصر، في حين أن “حزب الله” يمسك بمفاصل السياسة والاقتصاد والأمن، مستفيدًا من غياب خصومه الذين أهدوه النصر على طبق من مبادئ.
لقد نجح “الثنائي” فيما فشل فيه الآخرون، وهو استغلال الانقسامات وتغذيتها.
بينما تغرق “القوات” في وهم الطهارة السياسية، يحكم “الثنائي” سيطرته على الوزارات والمؤسسات والموازنات والقضاء والشارع.
تحت شعار “الاستقرار”، تُدار الدولة من مكتبين اثنين: “عين التينة” و “الضاحية”، ومنهما تُرسَم حدود السلطة والولاء، وتُقَر السياسات وتُجمَّد القرارات.
“الثنائي الشيعي” لم يعد مجرد شريك في الدولة، بل أصبح هو الدولة نفسها.
لا قرار يمر دون موافقته، ولا مشروع يتحرك دون رضاه.
يمارس سلطة الأمر الواقع بغطاء دستوري وشعار المقاومة، في حين أن لبنان يتآكل من الداخل، ومؤسساته تُختزل في مصالح شخصية ومناصب.
في المقابل، اختارت “القوات اللبنانية” الهروب بدل المواجهة.
كان بإمكانها أن تحضر الجلسة وتقاتل من داخل القاعة، وأن تسجل موقفًا في المحضر، وأن تكشف التلاعب بالأرقام أو الصفقات المشبوهة.
لكنها فضلت المقاطعة، فخسرت دورها وقدرتها على التأثير.
اليوم، يتجه لبنان نحو مشهد أكثر أزمة، سلطة محكمة القبضة بالكامل من قبل “الثنائي الشيعي”، ومعارضة مفككة تتقاتل فيما بينها.
لا صوت للشعب، ولا إرادة موحدة، ولا خطة إنقاذ.
ولبنان يترنح بين استبداد “الثنائي” وغرور “القوات”، والنتيجة هي انهيار مستمر لا راد له.
إن ما حدث ليس نصرًا لأحد، بل هو هزيمة جماعية للوطن.
لأن من يملك الدولة يستخدمها لخدمة مشروعه الخاص، ومن يملك الصوت يفضل الصمت.
وهكذا يُعاد إنتاج الانهيار بوجوه جديدة وشعارات قديمة.