“ليبانون ديبايت”-عبدالله قمح

ينظر حزب الله بواقعية إلى علاقاته السياسية، وفي عهده الجديد يبدي إنفتاحاً على التواصل مع أطراف شاركها الخصومة (باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل). الدعوة الأخيرة التي أطلقها الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم لفتح صفحة جديدة مع المقاومة تترافق مع حوار، لم تكن موقفاً عابراً أو انفعالاً في لحظة حرج سياسي أو عسكري، بل تمثل مساراً جدياً مبنياً على قناعة داخلية بدأ العمل عليها منذ فترة.

هذا المسار سبق التقارب السعودي – الإيراني الذي تكرّس عبر “اتفاق بكين” الموقّع برعاية صينية عام 2023. يومها كان السيد حسن نصرالله لا يزال على قيد الحياة، وكان يميل في تلك المرحلة إلى تحسين العلاقة مع المملكة العربية السعودية ضمن ضوابط وأسس. ويُقال إنه أطلق نقاشاً داخلياً في الحزب حول هذا التوجه، تخللته حوارات معمّقة في مقاربة مستقبل العلاقة مع الرياض.

في تلك الأثناء، شهدت بيروت انعكاساً واضحاً لهذا التقارب من خلال التطور الملحوظ في العلاقة بين السفيرين السعودي وليد البخاري والإيراني مجتبى أماني. ولم يقتصر الأمر على الاهتمام بتحسين العلاقات، بل تعداه إلى الحرص على إظهارها في مناسبات اجتماعية علنية. ولعل أكثرها وضوحاً تمثل في قيام البخاري بواجب التعزية بوفاة الرئيس الإيراني الأسبق إبراهيم رئيسي في مقر السفارة الإيرانية في بئر حسن، وجلوسه إلى جانب مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله السيد عمّار الموسوي. كما ظهر التنسيق جلياً في ترتيبات جلوس السفيرين معاً خلال فعاليات عامة، فضلاً عن مبادرة طهران لاحقاً إلى جولات عربية انطلقت من البوابة السعودية.

جاءت تطورات السابع من أكتوبر وما بعدها وما تخللها أو تضمنها لتكشف أن إسرائيل ماضية في خطة توسعية تستهدف معظم الدول العربية دون إستثناء، لا كرد فعل على عملية للمقاومة الفلسطينية فحسب. هذا المستجد عزّز لدى حزب الله قناعة بضرورة تصفير المشاكل السابقة مع بعض الدول العربية والانطلاق نحو أفق جديد. وقد ترسخت هذه القناعة أكثر مع تداعيات الحرب الأخيرة على الحزب، وانهيار النظام السوري وتمدد إسرائيل في سوريا، إلى جانب التهجير من غزة والضفة، وتهديد مصر، والضغط على الأردن، والعدوان المستمر على لبنان. وزاد الأمر خطورة مع استهداف قطر، الذي لم يُفهم فقط في سياق ضرب قيادات “حماس”، بل كرسالة موجهة إلى دور الدوحة وأمن الخليج عموماً، في إطار خطة بنيامين نتنياهو لبسط مشروع “إسرائيل الكبرى”.

أمام هذه المتغيرات الذي لا يحتاج إلى تبريرات أو لنيل الحزب موافقة من أحد، تأكد لدى قيادته أن الانفتاح والحوار في لحظة الخطر خيار مفيد ومطلوب، ليس فقط لفهم التوجهات، بل ربما للتعاون في مواجهة التهديدات. ومن هنا جاء كلام الشيخ نعيم قاسم واضحاً في دعوته السعودية لفتح صفحة جديدة، حيث يعني “الانفتاح” في قاموس الحزب تجاوز تراكمات الماضي بما تحمله من تفاصيل مزعجة.

صحيح أن الشيخ قاسم كان المبادر إلى الإعلان، لكن مبادرته لم تكن شخصية أو منفصلة عن السياق، بل جاءت نتيجة تفاعل داخلي حيوي في الحزب، تخللته حلقات نقاش وجسور فكرية بين مسؤوليه ومفكرين يدورون في فلكه. ورغم أن بعض وجهات النظر داخل الحزب رأت في ملفات مثل اليمن والبحرين عائقاً أمام الانفتاح لا بل أبدت تشدداً حياله، إلا أن “اللبننة” التي ميزت أسلوب الشيخ نعيم منذ توليه مهمته أعطت الأولوية للداخل اللبناني على ما عداه.

مع ذلك، لا يمكن عزل التأثير الإيراني ولا الدور المحوري لرئيس مجلس النواب نبيه بري عن هذا المسار. ففي حفل تكريمي أقيم على شرفه نهاية الاسبوع الماضي، كشف السفير الإيراني مجتبى أماني أن “المسار الذي بدأه الحزب مشكور ويحظى بدعم إيراني كامل”. كما لا يمكن تجاهل دور الرئيس بري الذي كان شاهداً على تمهيد هذا المسار في أيام السيد حسن نصرالله الأخيرة، وهو اليوم يدفع بقوة نحو استئنافه مع الشيخ نعيم قاسم.

وفي الزيارة الأخيرة لرئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني إلى بيروت، طرح بري فكرة أن تدعم إيران الحزب في مسار الانفتاح على السعودية لما يحمله ذلك من انعكاسات إيجابية على لبنان، ولا سيما على الساحة الشيعية. لاريجاني وعد بالإيجاب، ونقلت الفكرة إلى قيادة الحزب عبر قنوات دبلوماسية، وليس تفصيلاً أن تحضر دعوة قاسم بعد ساعات قليلة من وصول لاريجاني إلى الرياض ولقائه بالأمير محمد بن سلمان، التي كما هو مفهوم باتت تجد أفضلية في التعامل مع لبنان من خارج التمثيل الأحادي.

رغم ذلك، لم تغلق المملكة أبوابها، بل تعاملت بإيجابية مع الرسائل الواردة من بيروت. ومن أبرز المؤشرات على ذلك ما نُقل عن أن الشيخ نعيم قاسم أصدر تعميماً داخلياً قبل فترة يمنع فيه أي إساءة إلى الدول العربية، وعلى رأسها السعودية. مع ما سبق وأكده القيادي المقرب من الشيخ قاسم، الحاج محمود قماطي أن الحزب لم يعتبر السعودية يوماً دولة عدوة، مستشهداً بزيارة قديمة قام بها الشيخ قاسم إلى المملكة ولقاءاته هناك.

هذه الإشارات لاقت تفهماً سعودياً، بخلاف ما يُذاع في بيروت من مواقف لا يبدو أ للسعودية علاقة بها بل تصدر أو توزع عن جهات لا تجد مصلحة في أي تقارب بين المملكة والحزب. وإن فضلت الرياض عدم الرد العلني الآن على مبادرة قاسم الأخيرة، بإن ذلك يرتبط في الجبهة التي يفترض أن تتولى الرد.

على هامش زيارته إلى بيروت، فضل الأمير يزيد بن فرحان عدم على كلام الأمين العام لحزب الله، وهذا مفهوم، طالما أن قضايا من هذا النوع يفترض أن تتم متابعها أو يصدر التعليق حولها من جهات أرفع.