
في شوارع بيروت وأزقتها، تنتشر أصوات العربات ورائحة الأكلات الشعبية التي ترافق يوميات الناس منذ عقود. ليست هذه العربات مجرد مصدر رزق لأصحابها، بل هي أيضًا جزء من المشهد الاجتماعي الذي شكّل ذاكرة المدينة.
من الكرابيج الحلوة إلى الفول والعرانيس، تتقاطع قصص رجال كرّسوا حياتهم للعمل على هذه العربات المتواضعة، ليصنعوا لأنفسهم ولعائلاتهم حياة كريمة رغم كل التحديات.أبو علي، صاحب عربة الكرابيج، يمثّل صورة أصيلة عن المثابرة. منذ ستين عامًا، يخرج يوميًا إلى الطرقات حاملاً دلوه المليء بالكرابيج. هذه الحلوى التقليدية، المصنوعة من شرش الحلاوة والمحضّرة بعناية، تشبه البوظة من حيث الشكل لكنها لا تذوب. بسعر خمسين ألف ليرة للواحدة، يقدّم أبو علي قطعة صغيرة من الفرح لجيل بعد جيل. مشهد أبو علي وهو يجول احياء بيروت ليُفرغ دلوه من الكرابيج صار مألوفًا، كأنه طقس يومي يذكّر الناس بذاكرتهم المشتركة ونكهة زمن مضى.أما علي، فهو شاب قرّر أن يكمل مسيرة والده الراحل، الذي كان يبيع الفول والعرانيس تحت جسر المشرفية منذ خمسين سنة. لم يكن قرار علي مجرد خيار مهني، بل كان وعدًا بالوفاء لإرث والده. يقف اليوم في المكان نفسه، عربته محمّلة بالعرانيس والفول والجزر والشمندر والترمس والحامض. يتحدّث بفخر عن والده الذي ربّاهم من عرق جبينه، ووفّر لهم حياة كريمة لم يعرفوا خلالها طعم الحاجة.يقول إن والده لم يغب يومًا عن الشارع، لا برد ولا حرّ ولا مطر كان يمنعه من النزول. هكذا صار وجود علي في هذا الموقع ليس مجرد بيع، بل استمرار لقصة عائلية وذاكرة حيّ يربطه بالناس والمكان.
حتى أبو نصرت، قصّته تمتد أيضًا على أكثر من ٤٠ سنة، تنقّل خلالها بعربته بين أحياء بيروت الغربية: من البسطة إلى النويري وصولًا إلى البربير. بيع الفول والعرانيس لم يكن مجرد مهنة بالنسبة له، بل وسيلة ليعلّم بناته وأولاده، ويؤمّن لهم مستقبلًا جامعيًا مشرقًا. يروي أن تعب السنين لم يذهب سدًى، إذ استطاع أن يوفّر لعائلته حياة كريمة من دون أن يمد يده لأحد.حتى اليوم، ما زال يخرج كل صباح ليجول في الأحياء ويبيع ما تبقى في عربته، والتي بالمناسبة رافقته منذ بداياته، محافظًا على عادة لا تنطفئ.قصص هؤلاء الرجال تكشف عن عمق العلاقة بين الكدّ والكرامة. عرباتهم ليست مجرد عربات خشبية أو معدنية على عجلات، بل منصات حياة حملت أثقال السنين. هي مختبر للتجارب الإنسانية، حيث يلتقي العرق بالصبر، وحيث تتحوّل البساطة إلى وسيلة عيش تحفظ ماء الوجه. كل بيعة فول أو كرابيج تحمل معها قصة تعب ورضا، ودرسًا في كيفية مواجهة الظروف الصعبة بكرامة وإصرار.في زمن تغيّرت فيه أنماط الحياة وازدادت فيه التحديات الاقتصادية، تبقى هذه العربات شاهدة على قيمة العمل البسيط والشريف.أبو علي وعلي وأبو نصرت، وغيرهم كثيرون، يجسّدون حكاية الناس الذين حوّلوا الشارع إلى مكان رزق. إنها مهن قد لا تحظى بالواجهة أو الأضواء، لكنها تروي بصدق حكاية مدينة قاومت بالأمل، وحكاية رجال صاغوا وجودهم بعرق الجبين. فالعربات، مهما صغرت، تبقى عربات كرامة، تمشي على عجلات لكنها تحمل أثقل ما في الحياة: لقمة العيش.