
زيارة الوفد الأميركي برئاسة توم براك إلى بيروت لم تمرّ كسابقاتها، إذ حملت رسائل مباشرة وضغوطاً غير مسبوقة، سرعان ما فجّرت سجالاً سياسياً وإعلامياً حول نوايا واشنطن والرياض في هذه المرحلة. فبدلاً من أن تتضمّن خطوات ملموسة من الجانب الإسرائيلي تمهّد لاستكمال المبادرة السياسية، جاءت محمّلة بسلسلة مطالب وتحديات جديدة.
هذا المسار اعتبره رئيس مجلس النواب نبيه بري خروجاً عمّا كان متوقعاً، على اعتبار أنّ الرهان كان على التزامات إسرائيلية تدفع بالمسار السياسي إلى الأمام، لا على أجندة أميركية بدت مستعجلة لدفع الأمور نحو الصدام.ترى مصادر سياسية مطلعة أنّ الوفد الأميركي لم يأتِ بصفة وسيط يسعى إلى تقريب وجهات النظر، بل بصفة طرف يتبنّى بالكامل المطالب الإسرائيلية. وقد ظهر ذلك جلياً في اللهجة التي استُخدمت خلال التصريحات والتي لم تحمل أي نفس دبلوماسي، بل بدت أقرب إلى بيانات سياسية مُعدّة سلفاً في واشنطن، منها إلى مواقف تصدر عن منصات لبنانية رسمية. هذه اللغة عكست بوضوح أنّ المنابر الداخلية استُخدمت لتسويق خطاب خارجي يضغط على لبنان أكثر مما يفتح الباب أمام تسوية سياسية.وتشير مصادر شديدة الاطلاع إلى أنّ الأهداف الأميركية – السعودية لا تقف عند حدود السلاح، بل تتجاوزها نحو البنى المدنية والاجتماعية والخدمية وحتى الصحية المرتبطة بـ “حـ.ـزب الله”، في محاولة لتجفيف أي حضور مؤسساتي له. إذ إنّ الرياض، وفق المصادر نفسها، تعتبر أنّ اللحظة الراهنة هي فرصة تاريخية لتحقيق اختراق استراتيجي، فيما واشنطن تسعى إلى استثمار هذه الاندفاعة من دون أن تذهب إلى خيار الحرب الأهلية، إدراكاً منها أنّ نتائج هذا السيناريو غير مضمونة وقد تخرج تداعياته عن السيطرة.في مواجهة هذا المشهد، يقف رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون أمام حلّين طُرحا عليه كخيارات للتعامل مع الضغوط. الأول يقوم على منع فكرة الصّدام والتنفيذ بالقوة، حتى لو أدّى ذلك إلى توصيف لبنان “كدولة فاشلة”. أما الثاني، فيرتكز على أنّ لبنان استوفى كل الشروط المنصوص عليها في القرار 1701 بعدما تحمّل كلفة الاعتداءات الإسرائيلية طوال الفترة الماضية، وبالتالي دعوة المجتمع الدولي إلى إلزام إسرائيل بتنفيذ التزاماتها. هذان المساران يعكسان حجم المأزق الراهن، ويضعان الرئاسة أمام اختبار دقيق بين كلفة سياسية خارجية أو مواجهة داخلية قد تطيح بالاستقرار.وفي هذا السياق، تفيد المصادر بأنّ الرئيس نبيه بري، ومن خلال المفاوضات مع الوسيط، وجّه إلى الرئيس جوزاف عون رسالة أقرب إلى التذكير بمسؤوليته الوطنية، تدعوه إلى اتخاذ موقف يحول دون تمادي الأميركي في “استباحة السيادة والأرض والأمن والمؤسسات”. هذه الرسالة يبدو أنها تُرجمت سريعاً في موقف عون عبر إصراره، وفق المصادر، على المطالبة الصريحة بتنفيذ إسرائيل للقرار 1701 كاملاً، والتشديد على أنّ أي مسار سياسي لا يمكن أن يتجاوز هذه النقطة الجوهرية.وتُظهر الخلاصة التحليلية لزيارة الوفد الاميركي أنّ الإدارة الأميركية باتت تنزعج كثيراً من التمسك بالقرار 1701، وتسعى إلى تجاوزه بالاستناد إلى موازين قوى تفترض أنّها تميل لمصلحتها، مستفيدة من التنازلات التي قدّمتها الدولة اللبنانية خلال الفترة الماضية. أما الأمر الثاني الذي يثير حساسية هذه الإدارة فهو مسألة المطالبة بإلزام إسرائيل وهو ما ظهر بوضوح في كلام السيناتور ليندسي غراهام، حيث بدا أنّ واشنطن لا تريد التعامل كوسيط يوازن بين الطرفين، بل كجهة تتبنى المخاوف والمطالب الإسرائيلية بشكل كامل.تدخل البلاد مرحلة ترقّب مع اقتراب جلسة الثاني من أيلول، التي سيقدّم خلالها قائد الجيش العماد رودولف هيكل خطته التنفيذية. هذه الجلسة ستشكّل محطة مفصلية بين خيار التمسك بالقرار 1701 بما يحفظ السيادة، أو الانخراط في مسار تفرضه ضغوط الخارج بما قد يقود إلى صدام داخلي. وتشير المصادر إلى أنّ بقاء قيادة الجيش على مستوى التوازن نفسه بات موضع شك في ظلّ الضغوط المتزايدة. وعليه، تبرز، وفق المصادر، إشكاليات معقدة: هل يجد الجيش نفسه أمام أوامر باستخدام القوة في مواجهة تحرّكات شعبية ضد الضغوط السياسية والأمنية؟ هل يُدفع إلى عمليات عسكرية تتخطى نطاق جنوب الليطاني؟ وكيف ستتأثر المؤسسة من الداخل إذا طُلب منها الدخول في مواجهة مباشرة مع بيئة يتعاطف معها جزء من ضباطها وعناصرها؟ هذه الأسئلة تلخّص حجم المأزق المطروح، وتؤشر إلى أنّ قرار السلطة السياسية في الأسابيع المقبلة سيكون حاسماً في تحديد ما إذا كان لبنان مقبلاً على احتواء الأزمة أو على انزلاق خطير يهدد وحدة مؤسساته.