لم يكن طرح المبعوث الأميركي توماس براك خطة إنشاء “منطقة اقتصادية” في جنوب لبنان مجرد مقترح تقني يربط بين إعادة الإعمار والتهدئة. فالخطة كما كشفتها مصادر أميركية لموقع أكسيوس تحمل في جوهرها محاولة لفتح صفحة جديدة عنوانها نزع سلاح حـ.ـزب الله مقابل انسحاب تدريجي إسرائيلي وتدفق استثمارات عربية ودولية إلى الجنوب. لكن الطريق إلى هذه المعادلة المثالية محفوف بتناقضات عميقة تجعلها أقرب إلى اختبار سياسي معقد منها إلى اتفاق قابل للتنفيذ. فالولايات المتحدة تبدو مقتنعة أن قرار الحكومة بالشروع في نزع سلاح الحزب، ولو تدريجيا، يمثل تطورا تاريخيا يستحق البناء عليه. ومن هنا جاء طلبها من إسرائيل تقليص الضربات الجوية وإبداء الاستعداد للانسحاب من المواقع الخمسة التي لا تزال تحتلها في الجنوب، إلا أن إسرائيل تقرأ المشهد بمنطق مختلف فهي مستعدة لمنح واشنطن فرصة دبلوماسية، لكنها تبقي يدها على الزناد، وتلوح بأن أي تهدئة ستكون مشروطة بالكامل بمصالحها الأمنية والسياسية. فالضربات التي نفذت الأربعاء على الجنوب لم تكن مجرد عملية عسكرية روتينية، بل رسالة سياسية واضحة مفادها أن أي انسحاب أو تراجع لن يتم إلا وفق شروط إسرائيلية صارمة.
في المقابل، جاءت زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي لاريجاني إلى بيروت، والتي سبقت زيارة براك، لتذكر الجميع بأن أي مشروع يستهدف حـ.ـزب الله لن يمر من دون حساب إيراني. وقد حمل لاريجاني بحسب مصادر مطلعة على الموقف الإيراني رسالة مزدوجة، فمن جهة أكّد أن طهران تحترم سيادة لبنان ولا تنوي التدخل في قراراته الداخلية؛ ومن جهة أخرى، شدد على أن إيران لن تترك الحزب وحيداً أمام أي تهديد إسرائيلي أو إرهابي، وأن أي محاولة منهجية للقضاء عليه ستستدعي تدخلاً مباشراً، فقد أبلغ لاريجاني رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون صراحةً أن إيران لن تتدخل في الشأن السيادي اللبناني، لكنها ستقف إلى جانب حـ.ـزب الله إذا تدخلت الولايات المتحدة أو إسرائيل مجددًا. ونقل إلى رئيس الحكومة نواف سلام الموقف نفسه، مضيفا إن تدخل الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع أبو محمد الجولاني أو المجموعات المرتبطة به سيستدعي بدوره رداً إيرانياً. بهذا، رسم لاريجاني خطاً أحمر إقليمياً مفاده أن لبنان قادر على التفاوض داخلياً، وأن أميركا تستطيع اقتراح بدائل اقتصادية، لكن بقاء حـ.ـزب الله خارج دائرة الاستهداف الوجودي يبقى شرطاً إيرانياً غير قابل للنقاش.على هذه الخلفية، يبدي حـ.ـزب الله حذراً واضحاً من ورقة براك التي أقرتها الحكومة، معتبراً إياها انقلابا على اتفاق الطائف والدستور. ومن المفترض أن يبدأ تنفيذها مطلع الشهر المقبل، وفق الخطة التي سيعرضها العماد رودولف هيكل على طاولة مجلس الوزراء. ويعود هذا الحذر، ليس فقط إلى مضمون الورقة، بل إلى إدراك الحزب أن التنفيذ العملي سيضع الجيش في مواجهة مباشرة مع ملف السلاح، وهو ما قد يفتح الباب أمام توتر داخلي غير محسوب.وتشير مصادر مطلعة إلى أن التنسيق بين الجيش وحزب الله لا يزال وثيقاً، ويوصف في مجالس حـ.ـزب الله بأنه أكثر من ممتاز. بل تؤكد أن اللقاء الأخير بين مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في الحزب الحاج وفيق صفا وقائد الجيش، أفضى إلى تفاهمات حول كثير من الإشكاليات المطروحة بشأن حصر السلاح. ومن المرجح أن يشير قائد الجيش في مداخلته المقبلة أمام مجلس الوزراء إلى الحاجة الملحّة لتأمين العدة والعديد قبل الشروع في أي خطوة تنفيذية. موقف كهذا، إذا تبناه، قد يمنح الحكومة مبرراً لتأجيل القرار عملياً، ورمي الكرة مجدداً في ملعبها بعيداً عن المؤسسة العسكرية.اللافت أن مسألة دعم الجيش كانت محوراً أساسياً في لقاء المبعوث الأميركي مع قائد الجيش، ما يعكس رهان واشنطن على المؤسسة العسكرية كأداة لتنفيذ خطتها. غير أن ما يظهر حتى الآن هو أن الجيش نفسه يميل إلى التريث، مدركا أن الانخراط في هذا الملف من دون مقومات كافية قد يضعه في قلب معركة سياسية وأمنية تفوق قدراته.