كتب الدكتور جورج شبلي:

عسى أن تنالَ الحكومةُ المُشَكَّلة ثقةَ المجلس النيابيّ، لتتفرَّغَ الى معالجةِ ما ينتظرُها من ملفّاتٍ صادِمةٍ هي ” إنجازاتُ ” العهدِ البائدِ، والتي ” ما خَلّوه ” يحقّقُ للبنانيّين، منها، ما يفيدُهم، مع العِلمِ أنّ أركانَ ذلك العهد لم يفضحوا، وحتى السّاعة، مَنْ هم الذين لم يُخَلّوهم، ولماذا !!!

ما يهمّني من الملفّاتِ الكثيرة، اثنان : ملفّ المافيا، وملفّ الميليشيا. أمّا لماذا اخترتُ هذين الملفَّين، قبلَ سواهما، فلأنّهما، بالذّات، يُعتَبَرانِ مصيبةَ الوطنِ، وكارثتَه المميتة، ويشكّلانِ ثنائيّةً خطيرةً، تمارسُ هيمنةً كاملةً على إدارات الدولة، وضَغطًا على أنفاسِ النّاس، وبشكلٍ مُمَنهَج.

في لبنان، برزَت المافيا جماعةً من العصابات القائمة على الجريمة، والتي لا تحترمُ أيَّ شكلٍ من أشكال السّلطة. وقد أدارَت، ولمّا تزلْ تُديرُ أنشطةً غيرَ شرعيّة، تدرُّ ثرواتٍ هائلةً من القمارِ، والابتزاز، والتّهريب، والإتجارِ بالمخدّرات والأسلحة… فضلًا عن السّمسرةِ وتبييضِ الأموال. كما تعاطَت، بالتواطؤ مع الميليشيا، عمليّاتِ القتلِ، والاغتيال، والخطف. وكثيرًا ما تلطّى أركانُها خلفَ ألقابٍ، ومراكزَ سياسيّة، ورسميّة، أو رِجال أعمال، ومدراء مؤسّساتٍ تجاريّةٍ ومصرفيّةٍ، وما يشبهُها، حتى باتَ أكثَرُ المافياويّينَ من المشاهير، ومن أركانِ الحُكمِ الميامين.

في لبنان، اخترقَ المافياويّون الدولة، بحيثُ تداخلَت مصالحُ المؤسّساتِ الرسميّة، مع مصالحِ المؤسّساتِ المافياويّة، فصارَ الفَصلُ بينها مستحيلًا. وقد أدّى هذا التّداخلُ الى استغلالٍ مفضوحٍ للمال العام، والى إثراءٍ فاحشٍ غيرِ مسبوق، والى سيطرةِ دولةِ المافيا على الحكومة والمجلس النيابي والإدارات العامة، سيطرةً كليّةً نقلَتِ القرارَ والاستغلال والاستثمارَ، صفقاتٍ الى حسابِ المافيات، وذلك على حسابِ التنميةِ العامة، والاقتصاد الوطني، ما استباحَ لُقمةَ المواطن، واعتدى على عَرَقِ جبينه.

في لبنان، كذلك، فارَت مكوّنات الميليشيا الإيرانيّة التي تشكَّلَت بفِعلِ إيديولوجيا دينيّة متزمّتة، ذِراعًا للحرس الثّوري، وبسطَت سلطانَها على جزءٍ من مساحةِ لبنان، في البداية، ثمّ صادرَت قرارَ الدولةِ على كاملِ مساحتِها، وذلك باستقوائها بسلاحٍ خارجٍ عن الشرعيّة. ولمّا كان اللبنانيّون يحسبون أنّ زمنَ الميليشيات ولّى، إذ كان من الواجبِ أن تُفَكَّكَ بموجبِ دستورِ الطّائف، تفاقمَت مكوِّناتُ ميليشيا إيران، وعاثَت فسادًا، ومافياويّةً، وموبقاتٍ، ونَسَقًا تحريضيًا، وتقويضًا لمشروع الدولة، وترويجًا للفوضى المَلاليّة، ومساسًا بالسيادة… حتى صارَ أصحابُ الوباءِ الميليشياوي مرجعًا وحيدًا لقرارِ البلاد. وهكذا، شكَّلَ سلاحُ ميليشيا إيران، الفتنةَ بعينِها، وأساسَ الفُرقة بين أبناءِ الشّعب، وعامِلَ الطبقيّة والتّصنيف البغيض في مجتمعٍ لا دولةَ تسيطرُ عليه.

أيّها ” الدَّولَتِيّون ” الجُدُد، إنّ التَّراخي في موضوعَي المافيا والميليشيا، ليس مجرَّدَ مَضيعةٍ للوقت، فقط، بل هو جريمةٌ موصوفةٌ بحقِّ الوطنِ وأهلِه. فالمطلوبُ المُلِحُّ، قبلَ أيِّ شيءٍ آخر، هو تنفيذُ بنودِ القراراتِ الأمميّة، ومقرّراتِ اتّفاق الطّائف، بعدمِ القَبولِ بأنّ هناكَ بندًا خِلافيًّا يستوجبُ حوارًا حولَ طاولةٍ مستديرة، وهو السّلاحُ وما يرتبطُ به من بِدعةِ مشاركةِ أصحابِهِ بالاستراتيجيّة الدفاعيّة. واستنادًا، لا تلميح، أبدًا، الى كلمة مقاومة أو ما يشاكلُها، في البيان الوزاري، فاقتضى التّذكير.

في هذه المرحلة الدّقيقة من زمان لبنان، إنّ واجبَ حَسمِ قضيَّتَي المافيا والميليشيا، وهما، في الحقيقة، مَرَضٌ واحد، وميكروبٌ واحد لقرصنةٍ واحدة، هو واجبٌ وطنيٌّ إلزاميّ لا جُنوحَ عنه. فلا محرَّمات أو محظورات، ولا ما هو مسموح وما هو ممنوع، ولا تدوير زوايا، بل قرارٌ جريءٌ، وإلّا عودةٌ الى المأزق، ووقوعٌ في فَخِّ الأزمةِ والفشل، وهذا ما لا نرتضيهِ للبلاد، والعِباد.

حَرِيٌّ بالسّلطةِ الجديدة، وعلى مستوياتِها كافةً، أن تبادرَ الى تنفيذِ المقرّراتِ الدولية، والى تسليحِ الجيش وتسليمه أمن الوطن، وهذه قضيةٌ مركزية، ولها الأولوية المُطلَقة. وفي هذا الإطار، يُمنَعُ تمييعُ البحثِ في هذه المسألة، أو تسويفُ اتّخاذ القراربشأنها، لأنّ الوطنَ يرفضُ استمرارَ جَعلِهِ ضحيّة فوق مِحرقةِ المتبجِّحين بالانتصاراتِ الوهميّة، ويتمنّى لو يَهدمُ ألفَ حائطٍ فوقَ أولئكَ الذين زجّوه في أتون الإبادة، ليتخلَّص منهم الى غير رجعة، ويعود إليه الهواءُ النّظيف…