لبنان اليوم

– تقرير استقصائي

في واحدة من القضايا الأكثر إثارة للجدل، والتي تتداخل فيها الأموال والفساد والسياسة، اختفى رجل الأعمال اللبناني السعودي صلاح فستق من بيروت في ظروف غامضة، على الرغم من كونه مطلوبًا قضائيًا ومنعه من السفر بموجب قرار إداري صادر عن الأمن العام اللبناني. الرجل الذي يعرف في الأوساط الخليجية بـ “حارس أسرار صفقات الدفاع السعودية”، غادر البلاد بهدوء تام، بينما التزمت الأجهزة الرسمية الصمت، مما أثار تساؤلات جدية حول تواطؤ قضائي وأمني سهل عملية هروبه.

فستق، الذي كان يقيم في فندق “كامبنسكي” المملوك له شخصيًا، اختفى قبل حوالي أسبوعين بعد أن داهمت القوى الأمنية مقر إقامته في “كامبنسكي” و”زيتونة باي” دون أن تتمكن من العثور عليه. تشير المعلومات إلى أن زوجته غادرت لبنان في بداية شهر أيلول متوجهة إلى سويسرا، وأنه لحق بها بعد فترة وجيزة، وسط غياب أي توضيح رسمي لكيفية مغادرته الأراضي اللبنانية على الرغم من القيود المفروضة عليه، ومن الذي سهل له العبور عبر المنافذ الحدودية الرسمية.

تؤكد مصادر قضائية لـ أن صلاح فستق مطلوب منذ عام 2022 بناءً على طلب من السلطات السعودية، بعد ورود اسمه في تحقيقات دولية تتعلق بإدارة شبكة مالية ضخمة مرتبطة بعقود تسليح للحرس الوطني السعودي خلال فترة حكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. وتشير المعطيات إلى أنه كان الوسيط الرئيسي في الصفقات الدفاعية الكبرى التي أبرمها الحرس الوطني مع شركات غربية مثل “GPT” البريطانية و”Harris Corporation” الأميركية، من خلال شركته “ABTSS” التي استخدمت لتمرير عمولات مالية مشبوهة.

وصفت التحقيقات البريطانية فستق بأنه “الذراع التجارية” للأمير متعب بن عبدالله، الذي كان يرأس الحرس الوطني قبل إزاحته في حملة “مكافحة الفساد” التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عام 2017. هذه الحملة، التي وضعت حدًا لعقود من الفساد في المؤسسات العسكرية والأمنية، جعلت فستق أحد أبرز الأسماء المرتبطة بتلك المرحلة، خاصة وأنه كان يشرف على عقود تسليح بمليارات الدولارات تربط السعودية بعدد من الشركات الغربية.

أصدرت السلطات السعودية في 28 تشرين الأول 2022 مذكرة توقيف دولية بحق صلاح وشقيقه منصور فستق عبر الإنتربول، بتهمة التورط في مخالفات مالية جسيمة تتعلق بصفقات الدفاع الخاصة بالحرس الوطني. تجدر الإشارة إلى أن صلاح فستق هو والد زوجة الأمير متعب بن عبدالله، نجل الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز.

بينما كانت الرياض تسعى لاستعادته ومحاسبته، تحول لبنان إلى ملاذ آمن له، مستفيدًا من جنسيته اللبنانية ومن شبكة علاقات قوية داخل القضاء والسياسة. تفيد المعلومات بأن وسيطًا قضائيًا لعب دورًا في تسهيل تهربه من الملاحقة، بالتنسيق مع شخصيات لبنانية عملت على ترتيب “تسوية قانونية” لتبرير عدم توقيفه أو تسليمه للسلطات السعودية.

بعد اختفائه، تم استجواب عدد من المقربين منه، لكنهم رفضوا الإدلاء بأي معلومات حول وجهته. كما صادرت القوى الأمنية سيارته المجهزة بجهاز تتبع (GPS) بعد أيام من اختفائه، في محاولة لتحديد مسار تحركاته قبل مغادرته البلاد، في حين تشير مصادر إلى أن ملفًا يجري إعداده لسحب الجنسية اللبنانية منه بعد التأكد من مغادرته بطرق غير قانونية.

لا تتعلق القضية بفستق وحده، بل بطبيعة الدولة اللبنانية التي بدت عاجزة – أو متواطئة – في التعامل مع ملف يمس علاقاتها الخارجية وثقة حلفائها. ففي الوقت الذي تخوض فيه السعودية حربًا جريئة على الفساد وتعيد هيكلة منظومتها المالية بشفافية، يظهر لبنان وكأنه يرد الجميل بتهريب المطلوبين وحمايتهم، في مشهد يكشف عن هشاشة القضاء وضعف المساءلة.

وهكذا، غادر صلاح فستق لبنان كما دخل إليه: بهدوء مدروس وتغطية من داخل الدولة. وبينما تواصل الرياض جهودها لاستعادته ومحاسبته، يبقى لبنان محل شك في تواطئه على تهريب رجل يلاحقه الإنتربول، لتؤكد هذه القضية مرة أخرى أنه في بلد غارق في الفساد، المال أقوى من العدالة… والهروب أسهل من المحاسبة.