منذ أن عصفت الأزمة الاقتصادية بلبنان في عام 2019، وما تبعها من تدهور مريع في قيمة الليرة مقابل الدولار، تبدلت معالم الحياة اليومية للمواطنين، وامتدت آثارها لتشمل جميع القطاعات، وعلى رأسها القطاع الصحي والاستشفائي.
أصبحت المستشفيات اليوم تشكل عبئًا ماليًا لا يطاق على أصحاب الدخل المحدود، بعد أن تجاوزت تكاليف العلاج والعمليات قدرتهم على الدفع، وسط عجز الجهات الضامنة عن تغطية التكاليف الفعلية.
### من الحاجة إلى الخطر
على الرغم من مرور سنوات على الأزمة وتحسن نسبي في تغطية الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة، إلا أن هناك ظاهرة ملفتة ومثيرة للقلق لا تزال تتكرر حتى يومنا هذا: سفر عدد من المرضى اللبنانيين إلى سوريا لإجراء عمليات جراحية بأسعار أقل بكثير مما هي عليه في لبنان.
بينما تتراوح تكلفة بعض العمليات في المستشفيات اللبنانية بين 1500 و2000 دولار، يمكن للمريض إجراءها في سوريا بما لا يتجاوز 700 أو 800 دولار، مما يدفع الكثيرين إلى خوض هذه المغامرة الطبية، دون إدراك أن “التوفير” قد يتحول إلى رحلة موت محتملة.
### مأساة مريضة لبنانية
في هذا السياق، نقلت إحدى المريضات لـ قصتها المروعة، بعد أن قصدت مستشفى في سوريا لإجراء عملية جراحية في البطن.
تقول السيدة أن الطبيب السوري الذي استقبلها أجبرها على توقيع أوراق الخروج قبل دخول غرفة العمليات، بحجة أن الإجراء روتيني، ثم غادر البلاد بعد العملية، تاركًا المريضة تواجه مصيرها المحتوم.
بعد أن طمأنها الطبيب بأن العملية لن تستغرق أكثر من ساعتين، دخلت في غيبوبة استمرت ثمانية أيام بسبب نزيف داخلي حاد ناتج عن تخدير غير سليم وغياب أدنى معايير التعقيم. وعندما استفاقت، وجدت نفسها في حالة يرثى لها: التهاب في الجروح، نزيف داخلي وخارجي، وجلطات دموية متعددة.
تضيف المريضة: “المشهد في غرفة العمليات كان مأساويًا… لا يوجد تعقيم، ولا أدوات نظيفة، والشراشف ملطخة بالدماء، والطبيب اختفى من سوريا إلى قطر قبل أن يكتب لي أي تقرير طبي يساعدني على المتابعة في بيروت”.
عادت السيدة إلى لبنان في حالة صحية سيئة، واضطرت إلى الخضوع لعلاجات طويلة ومكلفة تجاوزت بأضعاف ما كانت ستدفعه لو أجرت العملية في مستشفى لبناني.
### تجارة الموت: الأعضاء البشرية “على الطريق”
الأمر الأكثر خطورة هو ما كشفته المريضة لاحقًا عن عرض تلقته صديقتها داخل أحد المستشفيات اللبنانية من رجل سوري يُدعى (ح. أ)، كان موجودًا هناك، وادعى قدرته على توفير “كلية” من سوريا مقابل 500 دولار فقط.
بحسب روايتها، قال الرجل حرفيًا: “منأمّنك بسيارة، بتوصلي عَ سوريا، منعمل العملية، وبتعودي عَ بيروت… كلّو بـ500 دولار.”
وأكد لها أن النقل يتم بطريقة غير قانونية عبر الحدود، ضمن شبكة منظمة تستغل حاجة المرضى وفقرهم.
### ظاهرة تستدعي تحركًا عاجلاً
هذه القصة ليست مجرد حادثة فردية، بل تكشف عن ظاهرة خطيرة تتسع في الخفاء، حيث يتسلل اليأس إلى قلوب اللبنانيين ويدفعهم إلى اتخاذ قرارات متهورة قد تكلفهم حياتهم.
بين المستشفيات التي تغلق أبوابها في وجه الفقراء، وتلك التي تستغل المرضى بأسعار باهظة، يجد المريض اللبناني نفسه أمام خيارين كلاهما مر: الموت على أبواب مستشفيات لبنان أو المجازفة والموت في الخارج.
إن ما يحدث بين لبنان وسوريا على صعيد السياحة الطبية الرخيصة يستدعي تدخلًا فوريًا من وزارتي الصحة والداخلية والأجهزة الأمنية، ليس فقط لحماية المريض اللبناني من الوقوع ضحية للغش الطبي أو الاتجار بالأعضاء، بل أيضًا للسيطرة على هذه الشبكات التي تتلاعب بحياة الناس مقابل المال.
في حين يعتقد البعض أنهم ينقذون أنفسهم بالتوفير، إلا أن الحقيقة المرة هي أنهم يدفعون الثمن الأغلى: حياتهم.
