لبنان اليوم

وسط الأنقاض والدمار الذي خلفته الحرب في غزة، تتضح معالم مرحلة جديدة من الصراع الإسرائيلي مع حركة حماس، والتي تتمحور هذه المرة حول “معركة الأنفاق”. فبعد سنوات من المواجهات، تعود إسرائيل لتضع هذا الملف على رأس أولوياتها العسكرية، وتعتبره – كما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس – “العمود الفقري لقدرات الحركة العسكرية”.

تصريحات كاتس الأخيرة، التي أشار فيها إلى أن 60% من أنفاق حماس ما زالت موجودة، أثارت تساؤلات حول قدرة الحركة على الحفاظ على بنيتها التحتية تحت الأرض، ومدى نجاح إسرائيل في تدمير ما تسميه “الشريان الخفي” لحماس، الذي شكل تهديدًا مستمرًا لجيشها ومستوطناتها لسنوات.

وأكد كاتس أن عملية “تجريد غزة من السلاح” لا تقتصر على جمع الأسلحة من الفصائل، بل تشمل أيضًا القضاء التام على شبكة أنفاق حماس، وأشار إلى أنه وجه الجيش الإسرائيلي إلى جعل هذا الملف أولوية قصوى في المنطقة الصفراء الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.

ووصف “القناة 12 الإسرائيلية” الأنفاق بأنها “مركز الثقة العسكري” لحماس، معتبرة أن الحرب القادمة ستكون في عمق الأرض وليس في السماء. وتشير التقديرات العسكرية إلى أن شبكة الأنفاق تتكون من حوالي 1300 نفق، تمتد لمسافة 500 كيلومتر، ويصل عمق بعضها إلى 70 مترًا، مما يجعل تدميرها مهمة معقدة تتطلب تقنيات متطورة.

ووفقًا لتقارير إسرائيلية، استخدم الجيش الإسرائيلي خلال عملياته الأخيرة روبوتات متفجرة وأجهزة استشعار متطورة لاختراق باطن الأرض، بالإضافة إلى أنظمة تجسس جوية رسمت خرائط دقيقة للأنفاق.

وكشف موقع “إنسايد أوفر” الإيطالي أن إسرائيل استخدمت تقنيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي وأنظمة استشعار متعددة الطبقات، تم تطويرها خصيصًا لتحديد مواقع الأنفاق بدقة، مما غير طبيعة المعركة ووسع نطاق السيطرة الإسرائيلية في الميدان.

وقال كوبي لافي، المستشار السابق في وزارة الدفاع الإسرائيلية، في تصريح لقناة سكاي نيوز عربية، إن وضع الأنفاق تغير بشكل جذري بعد الحرب الأخيرة، موضحًا أن إسرائيل تجنبت خلال المعارك السابقة تدمير الأنفاق بالكامل خوفًا على حياة المخطوفين الذين كانت حماس تحتجزهم وتتحرك بهم عبر هذه الممرات.

وأضاف أن “الضغوط الشعبية لعدم المس بالمخطوفين فرضت قيودًا عملياتية على الجيش”، لكن هذه المعادلة – بحسب لافي – تغيرت اليوم بعد تسليم أو استعادة معظم المخطوفين، قائلاً:

“لم يعد هناك خوف من استهداف الأنفاق. فكل من يسعى إلى تسوية مستقبلية لا يرغب في استمرار وجودها، بل يريد ضمان عدم استخدامها ضد إسرائيل مجددًا.”

ويرى لافي أن بقاء الأنفاق يعني استمرار التهديد لإسرائيل طالما حماس في الحكم، معتبراً أن “غياب الحركة عن السلطة سيُنهي الحاجة إلى هذه البنية التحتية العسكرية بالكامل”.

ويؤكد لافي أن إسرائيل تمتلك اليوم قدرات استخباراتية متطورة تمكنها من رسم خريطة دقيقة لمعظم الأنفاق، مشيرًا إلى أن الجيش يعتبر القضاء عليها أولوية أمنية لا يمكن تأجيلها، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرته المباشرة داخل القطاع.

وأضاف أن “من حق إسرائيل اتخاذ كل الإجراءات العسكرية لحماية جنودها ومواطنيها ومنع تكرار أحداث السابع من تشرين الأول”، في إشارة إلى هجمات حماس على المستوطنات الإسرائيلية.

ويرى المستشار الإسرائيلي أن المعركة لا تقتصر على الجانب العسكري، بل ترتبط بتفاهمات سياسية أوسع ترعاها واشنطن وعدد من الدول العربية، مشيرًا إلى وجود موافقة دولية وعربية ضمنية على عدم بقاء حماس في الحكم.

وأشار إلى أن حماس لا تزال “تراوغ في تسليم جثامين بعض المخطوفين”، وهو ما يعتبره خرقًا للاتفاقيات المبرمة، معتبرًا أن الحركة “تخشى أن يؤدي تنفيذ الاتفاق إلى نهايتها السياسية”.

ويرى لافي أن الإحباط داخل صفوف حماس وصل إلى ذروته بعد سنتين من الحرب، قائلاً: “في غزة تُطرح أسئلة صعبة: ماذا تحقق بعد هجمات السابع من تشرين الأول؟ لا تحرّر، لا مكاسب، فقط دمار شامل وخسارة الحكم.”

ويعتبر أن هذا الإدراك “يعني فقدان حماس لشرعيتها وقدرتها على الاستمرار”، وأنها “تحولت إلى عبء على الفلسطينيين أنفسهم”.

وفيما يتعلق بتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول إمكانية وجود دولي في غزة بعد الحرب، قال لافي إن إسرائيل “لا تعترض على المبدأ”، لكنها ترفض إشراك دول تعتبرها غير محايدة أو داعمة لحماس، مؤكدًا أن إسرائيل “تتعامل مع واقع جديد يضع نهاية فعلية للحركة كسلطة أمر واقع في القطاع”.

ولم يغفل لافي الإشارة إلى الدور الإيراني، قائلاً إن “حماس نفذت طويلاً أجندة تخدم النظام الإيراني، الذي موّلها ووجّهها سياسياً وعسكرياً”، مشيراً إلى أن تراجع نفوذ طهران وحزب الله في ساحات أخرى دفع الحركة إلى القبول بالشروط الجديدة “لا حبًا بإسرائيل، بل إدراكًا لتبدّل موازين القوى الإقليمية”.

تبدو معركة الأنفاق في غزة أكبر من مجرد مواجهة تحت الأرض؛ إنها صراع على مستقبل الحكم في القطاع، وعلى إعادة رسم الخريطة السياسية والأمنية لما بعد الحرب.

فبينما تصر إسرائيل على تجريد غزة من السلاح وتدمير البنية التحتية لحماس، تراهن واشنطن ودول عربية على تسوية تفتح الباب أمام مرحلة انتقالية جديدة تعيد تشكيل الوضع في القطاع والمناطق المحيطة به.