“تنحدر جدّتي من عائلة تُطلق النار عليك بدلاً من أن تجادلك… أيّ شخصٍ آخر في عائلتنا يمكن أن يتحوّل من الهدوء إلى القتل في لحظة”. بهذه الكلمات يصف جيه دي فانس، جذورَه العائلية في مذكراته الشهيرة “مرثية هيلبيلي” (Hillbilly Elegy)، كاشفًا عن بيئةٍ عاصفة صاغت شخصيته منذ الطفولة.

يقول فانس في سيرته: “لم نكن نعرف متى تتحوّل كلمةٌ خاطئة إلى شجارٍ عنيف، أو متى يتطاير طبقٌ في الهواء بسبب خطأ بسيط… كنا نعيش فوق ألغامٍ أرضية، والخطأ الصغير كان كفيلاً بتفجير العاصفة”.

وُلد فانس عام 1984 في ميدلتاون بولاية أوهايو، لعائلة من أصول أسكتلندية – إيرلندية استقرت في جبال الأبلاش شرقي كنتاكي. هناك، حيث الفقر والتهميش والإدمان، تشكّلت هوية الطبقة العاملة البيضاء التي رثاها في كتابه.

عاش فانس بين أمّ مدمنة وآباء متناوبين وجدّين كانا الملجأ الوحيد في حياته. هذه الخلفية جعلته يرى مجتمعه كمرآة لانهيارٍ أوسع في أميركا الريفية: تفكّك العائلة، تراجع الإيمان بالحلم الأميركي، وانهيار القيم المحافظة.

في مذكراته يقول: “نحن مبرمجون على الصراع. يبدو التفكّك قدَرًا لا مهرب منه”.

في سنوات المراهقة، كاد فانس ينهار تحت ضغط الفقر، قبل أن يلتحق بـ سلاح مشاة البحرية الأميركية، حيث تعلّم الانضباط والإصرار. ويقول: “علّمتني مشاة البحرية أنّ بإمكاني النجاح… أن أعمل عشرين ساعة في اليوم، وأن أقف بثقة أمام الكاميرات”.

بعد خدمته، التحق بجامعة أوهايو، ثم بكلية الحقوق في جامعة ييل عام 2010 بمنحة دراسية، ليصبح أول فرد في عائلته يدخل الجامعة. هناك، واجه صدمة ثقافية بين أبناء النخبة، وكتب لاحقًا أنه شعر “كغريبٍ في حفلةٍ لا يعرف قواعدها”.

صدر كتابه “مرثية هيلبيلي” عام 2016، في ذروة صعود ترامب. منح الكتاب فانس شهرةً واسعة، إذ قرأه كثيرون بوصفه تفسيرًا لصعود الشعبوية البيضاء. ومع أنّ فانس انتقد ترامب في البداية ووصفه بـ “الفارغ أخلاقيًا”، فإنّ الزمن قرّبهما أكثر.

رأى فانس في ترامب تجسيدًا لغضب الطبقة العاملة البيضاء التي ينتمي إليها، ومع الوقت تحوّل إلى أحد أبرز منظّري اليمين الشعبوي الجديد داخل الحزب الجمهوري.

يؤمن فانس بأنّ أزمة أميركا ليست فقط اقتصادية بل ثقافية وأخلاقية، وأنّ الانهيار الأسري وفقدان الإيمان بالقيم التقليدية هو ما دمّر مجتمعه. لذلك، يتبنّى مواقف محافظة متشددة:

مناهض للإجهاض، مع الدعوة لوضع معايير وطنية دون حظرٍ مطلق.

رافض لزواج المثليين وللعمليات الجراحية للتحوّل الجنسي للقاصرين.

داعٍ لتشجيع الأسرة الأميركية ودعم الأمهات اقتصاديًا.

اقتصاديًا، يدعو إلى الحمائية والتصنيع المحلي، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتقييد هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى. ويقول: “لا نحتاج إلى شركات عملاقة تؤمن بأميركا على الورق، بل من تبني وتوظف في أوهايو”.

على الصعيد الدولي، يتبنّى فانس مقاربة انعزالية نسبية:

يعارض التوسع العسكري الأميركي ويدعو إلى تسوية تفاوضية في أوكرانيا، ولو على حساب استعادة أراضيها بالكامل.

يؤيد التفاوض مع إيران على اتفاق نووي جديد يمنع التسلح العسكري.

يعتبر الصين التهديد الأكبر، ويدعو إلى مواجهة اقتصادية وتقنية معها.

يصف إسرائيل بأنها جزء من الأمن القومي الأميركي.

حين أدى فانس القسم نائبًا في كانون الثاني 2025، كان ذلك تتويجًا لمسيرة غير اعتيادية: من أعماق الفقر في جبال كنتاكي إلى السلطة.

لم يعد فانس مجرّد نائبًا، بل يمثل وجهًا جديدًا لليمين الأميركي، فهو يجمع بين لغة النخبة وتجربة الريف، بين الفكر الأكاديمي والغضب الشعبي. يراه البعض وريثًا محتملاً للمدرسة الترامبية، وربما مرشحًا رئاسيًا في المستقبل.

جيه دي فانس ليس مجرد سياسي تقليدي، بل هو ظاهرة ثقافية وسياسية تعبر عن تحول عميق تشهده أمريكا، حيث ينتقل مركز الثقل من النخب المهيمنة إلى المناطق الريفية المهمشة.

إنه شخصية صاعدة من بين “قاع المجتمع الأمريكي الأبيض”، لم ينس الألم الذي صقل شخصيته، بل وظفه كقوة دافعة نحو السلطة، ليحوله إلى مشروع سياسي يعكس تطلعات أمريكا الغاضبة، التي تبحث عن الخلاص الداخلي قبل كل شيء.

المصدر: لبنان اليوم