
اكتشاف فريق بحثي من جامعة السليمانية في كردستان العراق إمكانية استخدام عسل دبابير الورق لإنتاج جسيمات فضة نانوية طبيعية. أظهرت هذه الجسيمات النانوية قدرة فعالة على مكافحة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. يمثل هذا الاكتشاف مصدرًا واعدًا لتطوير مضادات حيوية آمنة ومستدامة.
تعتبر مشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وفقًا لتصنيف منظمة الصحة العالمية، بمثابة “وباء العصر”؛ حيث تهدد هذه الظاهرة فاعلية التدخلات العلاجية وتزيد من تعقيد عملية السيطرة على العدوى.
في ظل السباق المحموم بين المختبرات العالمية لإيجاد حلول جديدة قادرة على اختراق هذا الجدار الدفاعي المتين للبكتيريا، قد يلوح في الأفق حل غير تقليدي من جبال كردستان العراق، وذلك وفقًا لما توصل إليه فريق بحثي من كلية العلوم بجامعة السليمانية في دراسة حديثة نشرت في دورية “ساينتفيك ريورتس”.
أظهرت نتائج الدراسة إمكانية استغلال عسل دبابير الورق كمورد طبيعي فريد لتصنيع “جسيمات فضة نانوية” دون اللجوء إلى أي تدخلات كيميائية، وقد أظهرت هذه الجسيمات قدرة فائقة على إبادة البكتيريا المقاومة للأدوية.
ما هو عسل الدبابير؟ إنه عبارة عن مادة سكرية ينتجها نوع نادر من الدبابير يعيش في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في العراق وإيران وتركيا، ويعرف علميًا باسم ” بارابوليبيا إسكاليري”.
تقوم هذه الدبابير ببناء أعشاشها باستخدام ألياف نباتية ممزوجة باللعاب، مما يمنحها مظهرًا يشبه الورق الخشن، ومن هنا جاءت تسميتها بـ “الدبابير الورقية”.
أوضح الدكتور خالد محمد عمر، الأستاذ بقسم الكيمياء في كلية العلوم بجامعة السليمانية، والباحث الرئيسي في الدراسة، في تصريحات خاصة للجزيرة نت، أنه “على عكس النحل الذي يعتمد بشكل أساسي على رحيق الأزهار، فإن دبابير الورق تستمد إفرازاتها السكرية من مصادر متنوعة، وخاصة الإفرازات الموجودة على سطح أوراق البلوط”.
وأضاف: “بالتالي، يختلف التركيب الكيميائي لعسل دبور الورق اختلافًا كبيرًا عن عسل النحل، مما يمنحه خصائص كيميائية مميزة وتطبيقات محتملة فريدة، سواء كمنتج طبيعي أو كمصدر لتصنيع الجسيمات النانوية”.
على الرغم من احتواء هذا العسل على طيف واسع من المركبات النشطة بيولوجيًا، مثل الفلافونويدات والأحماض الفينولية والبروتينات والإنزيمات وغيرها من المواد النباتية الفعالة، والتي يمكن أن تعمل كعوامل اختزال وتثبيت طبيعية أثناء تصنيع الجسيمات النانوية الفضية، إلا أن إمكانياته العلاجية لم تحظ بالاستكشاف الكافي من قبل، وهو ما دفع الدكتور عمر وفريقه إلى محاولة استكشافه كمادة أساسية في تصنيع هذه الجسيمات بطريقة صديقة للبيئة.
ما هي جسيمات الفضة النانوية؟ هي عبارة عن جزيئات دقيقة للغاية من الفضة، لا يتجاوز قطرها في الغالب 100 نانومتر (أي أصغر من شعرة الإنسان بحوالي ألف مرة). وتتميز بخصائصها الفعالة في مقاومة البكتيريا والفيروسات والفطريات، ولهذا السبب يتم استخدامها على نطاق واسع في المجالات الطبية والتجميلية وتعبئة الأغذية والأجهزة الطبية.
يشير الدكتور عمر إلى أن “هذه الجسيمات تقوم بقتل البكتيريا عبر آليات متكاملة، بما في ذلك الالتصاق بجدار الخلية البكتيرية وإحداث ثقوب تؤدي إلى تسرب محتوياتها الداخلية، بالإضافة إلى إطلاق أيونات الفضة التي تتفاعل مع إنزيمات البكتيريا والحمض النووي الخاص بها، مما يوقف نموها وتكاثرها، علاوة على إنتاج جزيئات أكسجين نشطة تدمر البروتينات والأغشية الخلوية”.
بدلًا من الاعتماد على المواد الكيميائية التقليدية في تصنيع هذه الجسيمات، يتجه العلماء في السنوات الأخيرة إلى إنتاجها بطرق طبيعية أو “خضراء” باستخدام مستخلصات نباتية أو منتجات حشرية طبيعية، ومن هنا نشأت فكرة استخدام عسل دبابير الورق.
كيف يتم التحضير؟ تتم عملية تحضير هذه الجسيمات عبر عدة خطوات بسيطة، حيث بدأ الباحثون بجمع العسل من أعشاش دبور الورق في جبال بامو-خوشك بإقليم كردستان العراق، ثم يتم مزج قطرات من العسل مع خليط بسيط من نترات الفضة، مع الحرص على ضبط درجة الحموضة بدقة لتسريع التفاعل.
مع مرور الوقت، يبدأ لون المزيج في التحول تدريجيًا حتى يكتسب اللون البني الداكن، في مشهد يرمز إلى بداية تكون الجسيمات النانوية الفضية.
لم تتوقف العملية عند هذا التحول البصري، بل تم فصل الجسيمات وتنقيتها وتسخينها للتخلص من بقايا العسل الطبيعي، ثم خضعت لمرحلة دقيقة من الفحص باستخدام أجهزة تحليل متقدمة، مثل مطياف الأشعة فوق البنفسجية لتأكيد تكوين الجسيمات، وجهاز حيود الأشعة السينية لتحديد بنيتها البلورية، والمجهر الإلكتروني لمعاينة شكلها وحجمها، وجهاز تحليل الأشعة تحت الحمراء للكشف عن المجموعات الكيميائية المرتبطة بها.
أظهرت النتائج أن الجسيمات التي تم الحصول عليها من هذا المزيج الطبيعي كانت صغيرة جدًا، حيث لم يتجاوز قطرها 30 نانومترًا، وتتميز ببنية بلورية نقية من الفضة.
مصدر طبيعي واعد: قام الباحثون في المرحلة التالية باختبار القدرة القاتلة للجسيمات النانوية الفضية المستخلصة من عسل دبابير الورق ضد مجموعة من أنواع البكتيريا الخطيرة المعروفة بمقاومتها للمضادات الحيوية.
شملت الاختبارات البكتيريا موجبة الجرام مثل “ستافيلوكوكس أوريوس”، بما في ذلك سلالتها المقاومة للميثيسيلين، إضافة إلى البكتيريا سالبة الجرام “أسينيتوباكتر بوماني”، وهي من أكثر المسببات شيوعًا لالتهابات المستشفيات وصعبة العلاج.
أظهرت النتائج أن الحد الأدنى للجرعة اللازمة لقتل بكتيريا “ستافيلوكوكس أوريوس” -بما في ذلك سلالتها المقاومة للميثيسيلين- بلغ 17.5 ميكروغرامًا لكل مليلتر، في حين كانت الجرعة اللازمة لتثبيط نمو بكتيريا “أسينيتوباكتر بوماني” أقل من ذلك، حيث لم تتجاوز 8.5 ميكروغرامات لكل مليلتر.
تشير هذه النتائج إلى أن عسل دبابير الورق قد يشكل مصدرًا طبيعيًا واعدًا لإنتاج مواد فعالة ضد البكتيريا المقاومة للأدوية، مما يفتح آفاقًا جديدة أمام تطوير مضادات حيوية أكثر أمانًا واستدامة.
دراسات لتقييم السمية المحتملة: على الرغم من النتائج الواعدة، لم يغفل الفريق البحثي جانب السلامة الحيوية لهذه الجسيمات الجديدة، وأوضحت الدكتورة سیروان محسن، الأستاذ بقسم الكيمياء في كلية العلوم بجامعة السلیمانیة والباحثة المشاركة في الدراسة، في تصريحات للجزيرة نت، أن الفريق يجري حاليًا دراسات لتقييم السمية المحتملة للجسيمات النانوية الفضية على الخلايا البشرية والنماذج الحيوانية، مشيرة إلى أن النتائج الأولية مبشرة وتوحي بأنها آمنة ومتوافقة حيويًا.
تعزو الباحثة ذلك إلى أن الجسيمات مشتقة من مصدر طبيعي، وأن المركبات النشطة الموجودة في عسل دبابير الورق تسهم في تقليل السمية وتعزيز الانسجام مع أنسجة الجسم.
وفيما يتعلق بخطط الفريق المستقبلية، كشفت الدكتورة سیروان عن نية الباحثين توسيع نطاق الدراسة لتشمل أنواعًا أخرى من العسل ومواد طبيعية مختلفة لإنتاج جسيمات نانوية جديدة.
وأضافت أن الفريق يسعى أيضًا إلى استغلال الخصائص العلاجية لعسل الدبابير ذاته في تطبيقات طبية مباشرة، مثل علاج الجروح ومكافحة الميكروبات وتوصيل الأدوية، مما يجعل هذا المنتج الطبيعي مصدرًا مزدوج الفائدة للتقنية النانوية وللطب الحيوي على حد سواء.
تحديات التطبيق الواسع: أما فيما يتعلق بالتحديات التي قد تعترض طريق تحويل هذا الاكتشاف إلى إنتاج صناعي واسع النطاق، فقد أوضحت الباحثة أن الاعتماد على المواد الطبيعية في تصنيع الجسيمات النانوية يفرض صعوبات تتعلق بتفاوت المكونات الكيميائية تبعًا للبيئة والموسم ونوع الحشرة المنتجة، الأمر الذي يؤثر بدوره على ثبات وجودة المنتج النهائي.
كما أن التحكم الدقيق في حجم وشكل الجسيمات وضمان استقرارها خلال التخزين يشكل تحديًا تقنيًا إضافيًا، بالإضافة إلى التعقيدات التنظيمية المرتبطة باستخدام المواد البيولوجية.
ومع ذلك، ترى الدكتورة سیروان أن هذه العقبات لا تقلل من أهمية النهج الطبيعي الذي يمتاز بكونه صديقًا للبيئة ومنخفض التكلفة وآمنًا صحيًا، مما يجعله خيارًا واعدًا نحو تصنيع مستدام وآمن للجسيمات النانوية في المستقبل.
المصدر: لبنان اليوم