اكتشاف “بصمة كيميائية غريبة” في عينات صخرية يشير إلى وجود بقايا من “الأرض الأولى” في أعماق كوكبنا، نجت من الاصطدام العملاق الذي شكل القمر. هذه البقايا تمثل “غرف حفظ زمنية” تحمل بصمة الأرض القديمة، مما يمنح العلماء فرصة نادرة لفهم المراحل الأولى لتكوّن الأرض والكواكب الأخرى.
في أعماق كوكبنا، على بعد مئات الكيلومترات تحت القشرة، تكمن آثار من “عالم مفقود”. هذه الآثار هي بقايا من الأرض القديمة التي تشكلت منها أرضنا الحالية قبل أكثر من 4 مليارات عام.
ووفقًا لدراسة نشرت في دورية “نيتشر جيوساينس”، تم العثور على “بصمة كيميائية غريبة” في عينات صخرية مأخوذة من أعماق القشرة والمناطق العليا من الوشاح.
https://www.nature.com/articles/s41561-025-01811-3
تشير هذه البصمة إلى أن أجزاء من “الأرض الأولى” – الكتلة الكوكبية التي اصطدمت لاحقًا بجسم عملاق لتشكيل كوكبنا والقمر – لا تزال موجودة في أعماق الأرض.
بدأت القصة عندما قام الجيوكيميائيون بتحليل نظائر البوتاسيوم في الصخور القديمة جدًا التي تم جمعها من مناطق مختلفة مثل غرينلاند وكندا وجزر هاواي. النظائر هي ذرات لنفس العنصر تحمل نفس العدد من البروتونات، ولكنها تختلف في عدد النيوترونات داخل نواتها.
البوتاسيوم عنصر شائع في الصخور، ويمكن أن تكشف نسب نظائره أسرارًا عميقة. يتحلل البوتاسيوم-40 ببطء بمرور الوقت، ويعكس توزيعه في الصخور العمليات التي حدثت أثناء تشكل الأرض وتمايزها إلى نواة ووشاح وقشرة.
أظهرت الدراسة وجود نقص طفيف في نسب البوتاسيوم-40 مقارنة بالمستويات المتوقعة في الصخور الأرضية العادية. ويفسر هذا النقص بأن بعض أجزاء وشاح الأرض لم تختلط أبدًا ببقية الكوكب بعد الاصطدام العملاق بين الأرض الأولى وجسم بحجم المريخ، والذي يعتقد أنه أدى إلى تكوين القمر.
بعد الاصطدام، تحولت الأرض إلى محيط من الصهارة، ولكن يبدو أن بعض المناطق العميقة من الوشاح ظلت “محمية” ولم تتعرض للذوبان الكامل أو الاختلاط الكوني. ظلت هذه الجيوب العازلة “غرف حفظ زمنية” تحمل بصمة الأرض القديمة.
يكمن أهمية هذا الاكتشاف في أنه يمنح العلماء فرصة فريدة لرؤية المراحل الأولى من تكوين الأرض. فمنذ أن بدأت الكواكب تتشكل من الغبار الكوني في القرص المحيط بالشمس، كانت التفاعلات الكيميائية والحرارة العالية تمحو باستمرار آثار الماضي.
إن بقاء آثار كيميائية من الأرض الأولى يعني وجود دليل مادي على أصلنا قبل أن نصبح “الأرض كما نعرفها”.
استخدم فريق معهد ماساتشوستس نماذج فيزيائية وجيوكيميائية لإثبات كيف يمكن لبعض المناطق في الوشاح العميق أن تظل معزولة لمليارات السنين. بينما تتحرك الصفائح الأرضية، قد تظل أعماق الوشاح – خاصة عند حدودها مع النواة الحديدية – راكدة نسبيًا، ولا تصلها تيارات الحمل الحراري التي تخلط الطبقات.
تُعرف هذه المناطق باسم “المناطق منخفضة السرعة”، وهي بقع ضخمة تحت أفريقيا والمحيط الهادي، وقد تكون مخازن للمواد القديمة غير المختلطة. قد يكون هذا هو المكان الذي لا يزال يحتفظ بذاكرة الأرض الأولى.
https://www.youtube.com/watch?v=7zEjK1RMU4s
لا تقتصر أهمية هذا الاكتشاف على فهم تاريخ الأرض فحسب، بل يمتد ليشمل فهمنا لكيفية تشكل الكواكب الصخرية الأخرى، مثل المريخ والزهرة، وحتى الكواكب الخارجية البعيدة.
إذا كانت الأرض قد احتفظت بأجزاء من مادتها الأولى على الرغم من الاصطدامات الهائلة والتغيرات الحرارية، فهذا يعني أن عملية التمايز الكوكبي ليست متجانسة تمامًا كما كان يعتقد العلماء سابقًا. قد تحمل كواكب أخرى طبقات “أثرية” مماثلة لم تندمج بعد في كيان موحد.
إذا أمكن تحديد بصمات مماثلة في الصخور البركانية من المريخ أو القمر أو حتى الكويكبات، فقد نكون أقرب إلى إعادة بناء التاريخ الكيميائي للمنظومة الشمسية.
لا تزال هناك أسئلة مفتوحة حول حجم هذه الجيوب القديمة في باطن الأرض، وما إذا كانت خصائصها الحرارية أو الموجية تختلف عن باقي الوشاح، وما إذا كانت قد أثرت على شكل القارات أو حركة الصفائح أو النشاط البركاني.
تتطلب الإجابات أدوات جديدة، من الزلازل العميقة إلى التجارب المخبرية التي تحاكي ضغط الوشاح. ومع ذلك، فإن هذا الاكتشاف يعيد رسم خريطة هوية كوكبنا، فالأرض ليست مجرد جسم متجانس، بل فسيفساء زمنية تحتوي على طبقات من التاريخ، بعضها ما زال ينبض من عصر لم نكن نعلم أنه ما زال موجودًا.
المصدر: لبنان اليوم