ما الذي حوّل بحيرة قارون في مصر من المياه العذبة إلى المياه المالحة؟

بحيرة قارون: تحول من جنة مياه عذبة إلى بحيرة مالحة مهددة بالزوال، بفعل التغيرات المناخية والبشرية، وأثر ذلك على النظام البيئي والحياة الفطرية.

في قلب صحراء مصر، تقع بحيرة قارون، وهي لغز حيوي يكشف عن تحولات بيئية عميقة الجذور. هذه البحيرة، التي بدأت كمصدر للمياه العذبة، تشهد اليوم تحولًا مأساويًا نحو بحيرة مالحة ضخمة، مما يهدد الحياة التي ازدهرت على ضفافها.

تقع بحيرة قارون في منخفض الفيوم، على بعد 80 كيلومترًا جنوب غرب القاهرة، وتعتبر واحدة من أقدم البحيرات الطبيعية في العالم. لكن، ما نراه اليوم هو مجرد ظل لما كانت عليه هذه البحيرة العظيمة.

بحيرة قارون من الفضاء، تلاحظها أعلى محافظة الفيوم، التي تبدو بشكل “قلب” منفصل عن وادي النيل (ناسا)

البحيرة المنكمشة

قبل حوالي 70 ألف سنة، كانت منطقة الفيوم جزءًا من نهر النيل، حيث كانت المياه تتدفق لتملأ المنخفض وتشكّل بحيرة ضخمة عرفت باسم بحيرة موريس. كانت هذه البحيرة تمتد على مساحة تزيد على 1700 كيلومتر مربع، وكانت متصلة بالنيل عبر قناة طبيعية عرفت لاحقًا باسم بحر يوسف.

خلال القرن العشرين، شهدت مساحة البحيرة تغيرات تدريجية، حيث تقلصت بين عامي 1926 و1955 بسبب نقص مياه النيل، ثم زادت بين عامي 1973 و1984 نتيجة لزيادة تصريف مياه الصرف الزراعي إليها، لتصل إلى 241 كيلومترًا مربعًا في عام 2005.

تمتد مياه البحيرة حاليًا على مساحة 55 ألف فدان، وهي موطن للعديد من الطيور المحلية والمهاجرة النادرة. ومع ذلك، فإنها تعاني من تأثيرات التغيرات المناخية والأنشطة البشرية التي حولتها إلى بيئة غير مستدامة للحياة.

تعد البحيرة من البحيرات الطبيعية الضحلة، حيث تنخفض 43 مترًا تحت مستوى سطح البحر، ويبلغ متوسط عمقها 4.5 أمتار، بينما تصل أعمق نقطة بها إلى 10 أمتار.

تقع أعمق نقطة في البحيرة بالقرب من جزيرة القرن الذهبي، بينما يقل العمق على طول الشاطئ الجنوبي بسبب عمليات الردم الناتجة عن تصريف المصارف.

تشير الخرائط الطبوغرافية إلى أن البحيرة طولية الشكل، حيث يبلغ طولها 47 كيلومترًا، وأقصى عرض لها 8 كيلومترات غرب جزيرة القرن، ويبلغ إجمالي طول شواطئها 150 كيلومترًا. يتميز الشاطئ الشمالي للبحيرة بالتعرج نتيجة لكثرة الخشوم وعدم التدخل البشري.

يضم الجزء الشمالي للبحيرة أقدم طريق ممهد في العالم في منطقة جبل قطراني، وهي منطقة صخرية تحتوي على حفريات ثديية عمرها ملايين السنين، بما في ذلك حفريات أقدم قرد في العالم “قرد إيجبتيوس” وفيل الفيوم “فيوميا”، بالإضافة إلى حفريات لعروس البحر والحوت المصري القديم وبعض الأشجار المتحجرة.

تضفي الحكايات الشعبية سحرًا خاصًا على المنطقة، حيث يعتقد الكثيرون أن اسم البحيرة يُنسب إلى قارون المذكور في القرآن الكريم، وأن كنوزه كامنة تحت سطح البحيرة وتحرسها جنية أو حورية بحر.

قبل آلاف السنين كانت مياه البحيرة عذبة تماما (الجزيرة)

التحول من المياه العذبة إلى المالحة

تحولت بحيرة قارون من مياه عذبة تمامًا إلى مياه مالحة تفوق ملوحة البحر الأبيض المتوسط، وذلك بسبب انقطاع اتصالها بنهر النيل وتحولها إلى مستقبل لمياه الصرف الزراعي.

تاريخيًا، كانت البحيرة تستخدم لخفض منسوب فيضان النيل وتخزين المياه العذبة، ولكن مع مرور الوقت وزيادة تصريف مياه الصرف الزراعي، ارتفعت نسبة الأملاح في البحيرة بشكل ملحوظ.

يعد مصرفا البطس والوادي من المصارف الرئيسية التي تغذي البحيرة بمياه الري، ويمثلان حوالي 60% و31.18% على التوالي من إجمالي مياه الصرف.

بالإضافة إلى ذلك، تصب في البحيرة 12 مصرفًا فرعيًا آخر و17 محطة صرف صحي، تحمل جميعها مياه صرف الأراضي الزراعية المحملة ببقايا الأسمدة والصرف الصحي.

تاريخيا استُخدمت بحيرة قارون لخفض منسوب فيضان النيل (غيتي)

مزيد من الملوحة

ازدادت كميات الصرف التي تصل إلى البحيرة تدريجيًا مع زيادة رقعة الأراضي الزراعية، وبلغت مليون و341 ألف متر مكعب في اليوم في عام 2021.

تستقبل البحيرة سنويًا حوالي 400 مليون متر مكعب من مياه الصرف الزراعي التي تتراوح ملوحتها بين 1.29% و3.80‰.

ارتفعت نسبة الملوحة في البحيرة من 10.5 جرام/لتر في عام 1906 إلى 38 جرام/لتر في عام 2019.

يعزى هذا الارتفاع في الملوحة إلى وقوع البحيرة في منطقة صحراوية وتعرض مياهها للتبخر، بالإضافة إلى كونها بحيرة داخلية مغلقة لا ترتبط بالبحر.

يتوقع الباحثون زيادة أخرى في الملوحة خلال القرن القادم، مما قد يؤدي إلى تحول البحيرة إلى مسطح مائي ميت خالٍ من أي كائنات حية.

كانت البحيرة موطنا غنيا للأسماك النيلية (غيتي)

نظام بيئي مهدد

شهد النظام البيئي للبحيرة تقلبات متتالية أدت إلى تغييرات جذرية في عناصره، وخضعت البحيرة لأنظمة استغلال مختلفة كانت السبب في تحديد بنية وديناميكيات الكائنات الحية المختلفة في البحيرة.

تاريخيًا، كانت البحيرة موطنًا غنيًا للأسماك النيلية، ولكن تزايد الملوحة أدى إلى اختفاء معظم أسماك المياه العذبة وانخفاض الإنتاج السمكي.

لتعويض اختفاء أسماك النيل، تم تزويد البحيرة بأنواع أسماك بحرية قادرة على التكيف مع البيئة الجديدة القاسية.

تغيرت تركيبة صيد الأسماك في البحيرة، حيث تحولت من أسماك المياه العذبة إلى الأسماك التي تتحمل مستويات عالية من الملوحة.

انخفض إنتاج مصايد الأسماك في البحيرة من 2000 طن في عام 1981 إلى 5 أطنان فقط في العام 2022.

أحد أكبر التحديات التي تواجه البحيرة هو تفشي طفيليات متماثلات الأرجل التي غزت البحيرة بشدة من خلال صغار الأنواع المستوردة من البحر الأبيض المتوسط.

تتغذى هذه الطفيليات على الدم وتسبب مشاكل خطيرة للأسماك المضيفة، مما يؤدي إلى فقر الدم وتأخر النمو والموت.

بالإضافة إلى ذلك، تعرضت مياه البحيرة لتلوث فيزيائي وكيميائي وبيولوجي، مما أدى إلى انبعاث الروائح الكريهة وجعل مياه شواطئها غير ملائمة للاستحمام.

المصدر: لبنان اليوم