
“ليبانون ديبايت” – باسمة عطوي
على بُعد أيام قليلة من “ذكرى” اندلاع الأزمة المالية في 17 تشرين الأول 2019، ثمة تطوران يشهدهما لبنان حالياً على صلة بالأزمة: الأول هو سعي حكومة الرئيس نواف سلام لتنفيذ إصلاحات مطلوبة من صندوق النقد الدولي تمهيداً لتوقيع اتفاق معه، والثاني هو ارتفاع سعر سندات اليوروبوند للمرة الأولى إلى نحو 24 سنت، بعد أن هبط سعرها إلى 6 سنت بعد تخلّف لبنان عن سداد سنداته الدولية المستحقة البالغة 31 مليار دولار في آذار 2020. حينها تفاقمت الأزمة المالية، مما أدى إلى محو الميزانيات العمومية للبنوك وخسارة العملة المحلية 99 بالمئة من قيمتها.
خلفية هذين التطورين سياسية بالتأكيد. ففي ما يتعلق بالأزمة، توصلت المنظومة السياسية–المصرفية إلى قناعة أنه لا بد من القيام بتسوية للخروج من الأزمة (على أمل ألا تكون على حساب المودعين). علماً أن اندلاعها كان نتيجة تحالف هذه المنظومة التي مارست لعقود سياسات مالية ونقدية خاطئة، واعتمدت على التحويلات الخارجية والاستدانة والقطاع المصرفي لتمويل الدولة بدلاً من الإنتاج. كما تغاضت عن المعالجة السليمة للعجز في الميزانية والحساب الجاري، وعمدت إلى تغطيته بجذب الودائع، خاصة بالدولار، بفوائد مرتفعة، والقيام بهندسات مالية خطيرة منذ 2016. إذ بدأ مصرف لبنان بتنفيذ “هندسات مالية” مع المصارف لجذب الدولار، مما زاد من الارتهان للدين وعمّق الخلل النقدي.
أما في ما يتعلق بسندات اليوروبوندز، فتعمد الصناديق الاستثمارية التي اشترت السندات من المصارف إلى تحريك السوق وزيادة الأسعار بعد أن لمست تطورات سياسية إيجابية في لبنان يمكن أن توصل إلى توقيع اتفاق مع صندوق النقد، يتبعها تفاوض الحكومة اللبنانية مع حاملي السندات لمعاودة التسديد.
باختصار، الأزمة سببها فساد وسوء إدارة مزمن، فساد سياسي، ضعف في البنى التحتية، وهدر كبير في الكهرباء والقطاعات العامة، دون أي إصلاحات جدية. وبالرغم من أنها انفجرت بشكل صارخ في 17 تشرين الأول 2019، أي قبل ما يقارب الست سنوات، إلا أن مؤشراتها بدأت تظهر منذ العام 2017. وهذا ما يمكن استنتاجه من خلال طلب مصرف لبنان من المصارف في 27 آب 2020، من خلال التعميم 154، أن يُعيدوا الأموال التي حوّلوها لمودعيهم إلى الخارج بدءاً من العام 2017. فمنذ ذلك التاريخ بدأت بوادر التحويلات إلى الخارج تُشكل مؤشراً مقلقاً لتراجع السيولة بالعملة الأجنبية، والتي تمّ إخفاؤها عبر الهندسات المالية وجذب الودائع بفوائد مرتفعة، إلى أن ظهرت بوادر الأزمة بشكل واضح في أيلول 2019 حين أعلن وزير المالية السابق علي حسن خليل أنه من الضروري التفكير بإعادة جدولة الدين العام. هذا التصريح أحدث خضة كبيرة حاولت المنظومة السياسية–المصرفية “ضبضبتها”، إلى حين انفجار الأزمة في 17 تشرين الأول من العام نفسه. فمنذ ذلك التاريخ (أيلول 2019) تزايدت شكاوى الشركات والمستوردين من عجز المصارف عن تلبية طلبهم على الدولار، واضطر كثيرون للجوء إلى الصرّافين بأسعار تفوق السعر الرسمي (1507.5)، في أول مؤشر صريح على تشكل سعر موازٍ فعلي وترشيد/تقنين للدولار من المصارف.
الخوري: الأزمة لم تكن قدراً محتوماً بل نتيجة تراكم خيارات قصيرة النظر
يشرح الخبير في الشؤون المالية والاقتصادية وعميد كلية الإدارة والأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار الخوري لـ”ليبانون ديبايت” أنه “حين نعود إلى السنوات التي سبقت انفجار الأزمة اللبنانية، يتضح أن السياسات النقدية والمالية اتسمت بجمود وتراكم أخطاء مزمنة. منذ 2019 برزت محدودية قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في سياسة تثبيت سعر الصرف، بغياب إصلاحات مالية وبنية إنتاجية قادرة على تغذية السوق بالعملات. كان الاعتماد شبه الكلي على تدفقات الودائع والتحويلات الخارجية يخلق وهم الاستقرار، في حين كانت المالية العامة غارقة في العجز والمديونية المتصاعدة”.
ويضيف: “جرى الدفاع عن الليرة عبر احتياطيات آخذة في الاستنزاف، ورافقتها سياسات إنفاقية توسعية من جانب الحكومات والبرلمانات من دون رقابة جادة أو خطط إصلاحية متكاملة. القوة الوحيدة التي يمكن رصدها في تلك المرحلة كانت قدرة المؤسسات النقدية على إطالة عمر النظام المالي أطول مما كان متوقعاً، غير أن الكلفة تراكمت بشكل جعل الانفجار حتمياً”.
الفحيلي: الصناديق الاستثمارية تستخدم المتغيرات كذريعة لرفع سعر “اليوروبوندز”
بعد كل ما ذُكر أعلاه في تشريح أسباب الأزمة، من المفيد التوقف عند أسباب ارتفاع أسعار سندات “اليوروبوندز” اللبنانية أكثر من 300 بالمئة في الأسواق العالمية، أي من نحو 6 سنت في أيلول 2024 إلى نحو 24 سنت حالياً، في الوقت الذي لم توقّع فيه الحكومة اللبنانية اتفاقاً مع صندوق النقد، ولم تبدأ مفاوضاتها مع حاملي السندات للاتفاق على معاودة السداد. علماً أنه حين قررت الحكومة التخلف عن السداد في آذار 2020، هبطت أسعار السندات من 80 إلى 6 سنت.
يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور محمد الفحيلي لـ”ليبانون ديبايت” أن “هناك عدة ركائز تساهم في فهم ما يجري. الأولى أنه يجب التفريق بين حاملي السندات اليوم، وهم أصحاب صناديق الاستثمار (مضاربون) اشتروا السندات بعد تخلف الدولة عن السداد وليسوا أصحاب السندات الأصليين. وهؤلاء تزداد نسبة أرباحهم مع زيادة أسعار السندات التي اشتروها على سعر (5 سنت)، في حين أن ارتفاع الأسعار بالنسبة لحاملي السندات الأصليين يعني التخفيف من خسارتهم”.
ويضيف: “المحرك الأساسي لهذا الارتفاع المصطنع هو أن صناديق الاستثمار التي استحوذت على هذه السندات بعد الانهيار يهمها تحريك السوق، لأن أي تحسن بسعر التداول ينعكس إيجاباً على ربحيتها”.