
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “يرسم لنا المقطع الإنجيلي الذي سمعناه اليوم لوحة روحية غاية في العمق، إذ فيه يكشف لنا الرب عن دعوته للإنسان ويعلمنا معنى الطاعة لكلمته. لقد عاش التلاميذ ليلة شاقة في تعب وبلا ثمر، حتى جاء المسيح وطلب منهم ما بدا لامنطقيا بحسب الخبرة البشرية. غير أن كلمة الرب وحدها تفعل المستحيل وتحول العدم إلى امتلاء. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم «حيث تفشل جهود الإنسان وحدها، هناك تتجلى قوة الله، لأن النعمة لا تظهر عملها إلا حين يدرك الإنسان ضعفه”.
أضاف: “لم يكن ما فعله بطرس مبنيا على خبرته كصياد، بل على ثقته بالرب، إذ قال: «بكلمتك ألقي الشبكة». هذه العبارة القصيرة هي حجر الأساس للحياة المسيحية. فالإيمان لا يقوم على البرهان الحسي، بل على الثقة بمن هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6). يرى القديس كيرلس الإسكندري أن طاعة بطرس لم تكن تجاوبا آنيا، بل كانت دخولا في مدرسة جديدة، حيث يتعلم الإنسان أن يسلم ذاته للمسيح حتى ولو بدا الأمر عبثا في منظور العقل البشري. هذا ما نحتاجه نحن اليوم في عالم يعبد المال ويتبع المنطق ويبتغي الربح والمردود المباشر، لكنه يفتقر إلى الثقة بالذي له السلطان على كل شيء ويمسك التاريخ كله في يده”.وتابع: “سمعنا كيف امتلأت الشباك فجأة، حتى عجز بطرس ورفاقه عن احتمال ما نالوه. يشرح القديس باسيليوس الكبير أن فيض النعمة الإلهية يفوق دائما توقعات الإنسان، لأن الله لا يعطينا وفق حساباتنا، بل كغزارة رحمته. فقد تعب الصيادون الليل كله دون جدوى، وعندما أطاعوا كلمة الرب يسوع «احتازوا من السمك شيئا كثيرا حتى تخرقت شبكتهم». هذا الصيد الغزير هو صورة لعمل الكنيسة في التاريخ، إذ بالكلمة والشهادة تمتلئ الشباك بالبشر من كل الأمم. الكنيسة لا تصطاد إلى الموت كما يفعل صيادو البحر، بل إلى الحياة. يشدد الآباء على أن ما يؤخذ من بحر هذا العالم ينقل إلى سفينة المسيح لينجى من الهلاك”.وقال: “عندما رأى الرسول بطرس ذلك الصيد الغزير خر عند ركبتي يسوع قائلا: «أخرج عني يا رب فإني رجل خاطئ»، مظهرا لنا أن اللقاء الحق مع الله يكشف الإنسان أمام ذاته. ففي حضرة القداسة يرى المرء ضعفه ويعترف بعجزه. هذه الخبرة ليست لزرع اليأس، بل لفتح القلب على الغفران، كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: «إن معرفة الخطيئة بداية الخلاص». المسيح لم يرفض بطرس بسبب خطيئته بل قال له «لا تخف» ودعاه إلى رسالة أعظم، مؤكدا له أنه منذ الآن سيكون صيادا للناس. هذا هو سر الدعوة، فالله لا يختار الكاملين، بل الضعفاء، ليجعلهم شهودا لقوته. هنا يكمن عزاء عظيم للمرهقين بالخطايا والضعفات، لأن المسيح لا ينتظر منا الكمال المسبق، بل القلب المتواضع الذي يقبل أن يتغير. الدعوة «إلى العمق» لا تزال توجه إلينا نحن الذين نعيش في زمن يغري بالبقاء على السطح، في الإستهلاك السريع للأفكار والأشياء وحتى الإنسان، حيث كل شيء يقاس بالنتيجة الفورية وبالمردود المادي. لكن المسيح يطلب منا أن نغوص في العمق: عمق الصلاة والكلمة والحياة والشركة الحقيقية مع إخوتنا. وحده العمق يؤدي بنا إلى خبرة الله. أما إذا بقيت حياتنا سطحية فلن نختبر الصيد العجيب، بل سنرجع فارغين”.أضاف: “الدخول إلى العمق لا يعني تكريس لحظات إضافية للعبادة، بل تحويل حياتنا كلها إلى مسيرة بحث عن وجه الله. قد يظن المرء أن جهده بلا معنى حين لا يرى ثمرا مباشرا، لكن كلمة الرب تذكرنا بأن التعب البشري يصبح مثمرا حين يقدم بإيمان وطاعة وثقة. فالأم في بيتها، والمعلم في صفه، والطبيب في عيادته، والعامل في مصنعه، كلهم قادرون أن يلقوا شباكهم «على كلمة المسيح»، أي أن يقوموا بعملهم بأمانة وثقة، فيصير جهدهم شهادة غير منظورة لنعمة الله”.وتابع: “المسيح لم يصنع المعجزة فيما كان وحده، بل أراد التلاميذ شركاء في الطاعة وفي جمع الصيد. هكذا الكنيسة اليوم، ليست مسرحا لعمل الله المنعزل، بل هي جسد يشارك فيه كل عضو موهبته. لذلك، لا يحق لنا أن نقف متفرجين، بل كل واحد منا مدعو إلى المشاركة سواء بالصلاة أو الخدمة أو الكلمة أو أعمال الرحمة. ومهما قست الظروف تبقى قائمة لأن المسيح نفسه حاضر في وسطها. هنا يكمن الرجاء، أن العاصفة لن تغرق السفينة، ولا الشباك ستتمزق ما دام الرب هو القائد. هذا رجاء لأيامنا، إذ نرى الإيمان محاصرا، والكنيسة متألمة، والأخلاق والقيم ضائعة، لكننا نعلم أن التاريخ في يد الرب، وأن سفينته لن تغرق لأن مشيئته خلاص الإنسان لا موته. عندما عاين الصيادون ما صنع يسوع تركوا كل شيء وتبعوه. هذه هي الإستجابة الجوهرية للدعوة، أي التخلي عن كل شيء واتباع الرب. هذا لا يعني أن نترك البيوت والأشغال بالمعنى المادي، بل أن نحرر القلب من كل ما يجذبه في هذا العالم، ومن كل ما يبعده عن الله: الأنانية وحب المال والسلطة والتعلق بالزائلات فيصير المسيح مركز الحياة وغايتها”.وختم: “دعوتنا اليوم أن نجعل حياتنا مسيرة ثقة بكلمة الرب، ولو خالفت حساباتنا، وأن نثبت في الكنيسة، سفينة الخلاص، حاملين الشباك معا، عالمين أن الفرح الحقيقي يكمن في صيرورتنا أنوارا تعكس ضياء المسيح وتصطاد الناس إلى حضنه حيث الحياة الأبدية. كذلك نحن مدعوون أن نثبت في حب وطننا وأن نعمل من أجل خلاصه، محترمين دستوره وصائنين هيبته وسلطته ومكانته، غير متعدين على قراراته أو خارجين على قوانينه أو محملينه وزر أخطائنا. اللبنانيون مدعوون للعيش معا في رعاية دولة قوية وعادلة، ضمن الإحترام المتبادل وقبول الآخر وعدم السخرية منه أو استفزازه أو كيل الشتائم له. كما أنهم مدعوون إلى أن يكونوا لبنانيين قبل أن يكونوا من هذه الطائفة أو تلك، وأن يبتعدوا عن التعصب والتطرف والتبعية والتحريض والتشبث بالرأي. ومهما قست الظروف واسودت الآفاق، إن ثبتنا على الأمانة لوطننا والرجاء بالرب، ووضعنا ثقتنا به، لا بد من أن يمد يده لانتشالنا من الغرق، أو دعوتنا إلى القيام بما يراه مناسبا لنا، كما فعل مع بطرس والصيادين فتمتلئ شباكنا بالصيد الكثير، أي النعم التي يغدقها الرب على محبيه”.