
شهد الجنوب اللبناني أمس تصعيدًا إسرائيليًا جديدًا أعاد التوتر إلى الواجهة، بعدما أقدمت الطائرات الحربية على استهداف أربعة مبانٍ مدنية عقب سلسلة من التحذيرات الموجهة إلى السكان.
هذا التطور أثار العديد من علامات الاستفهام حول خلفياته وتوقيته، خصوصًا أنه ترافق مع استمرار العمليات العسكرية في غزة، ما يفتح الباب أمام قراءات متعددة للأهداف الإسرائيلية.
السبب الأول الذي يُطرح بقوة يتعلق بعودة قسم لا بأس به من سكان القرى الحدودية إلى بلداتهم بعد أشهر من النزوح. هذا المشهد أقلق إسرائيل بشكل واضح، إذ إن الضربات السابقة على القرى لم تمنع الأهالي من العودة، الأمر الذي شكّل معضلة حقيقية أمام المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. من هنا، يبدو أن التحذيرات المسبوقة بالغارات ليست سوى محاولة لخلق حالة من الرعب النفسي والضغط على المدنيين لدفعهم مجددًا إلى مغادرة منازلهم، وبالتالي الإبقاء على الحدود في حال من الفراغ البشري التي تعتبرها تل أبيب أكثر أمانًا لها.السبب الثاني يرتبط بعملية إشغال حـ.ـزب الله وإبقائه في دائرة الضغط المستمر. فإسرائيل تسعى، من خلال هذه الغارات، إلى توجيه رسائل واضحة للحزب، وإلى استنزافه أمنيًا وعسكريًا متى سنحت لها الفرصة. ومع كل استهداف، تفتح تل أبيب احتمال ضرب مواقع أو قدرات قد تكون اكتُشفت خلال الأيام الماضية، وذلك ضمن إطار تكتيكي يهدف إلى منع الحزب من استعادة أو ترميم ما فقده من إمكانيات، في ظل انشغاله أيضًا بمتابعة التطورات في غزة.أما السبب الثالث، فهو سياسي بامتياز، إذ لا يمكن فصل هذا التصعيد عن الضغوط الأميركية المتزايدة على لبنان. واشنطن، التي تستعد لتكثيف مساعيها في المرحلة المقبلة بشأن ملف السلاح، تجد في التصعيد الإسرائيلي وسيلة للضغط غير المباشر على الداخل اللبناني. فاستمرار الغارات والتهديدات يعزز النقاش الداخلي حول مستقبل السلاح في يد القوى غير الرسمية، ويضع القوى السياسية أمام اختبار جديد، خصوصًا في ظل التعقيدات الاقتصادية والسياسية التي يعيشها البلد. يمكن القول إن الغارات الأخيرة ليست مجرد عمل عسكري منفصل، بل هي جزء من استراتيجية متكاملة تسعى إسرائيل من خلالها إلى تحقيق أكثر من هدف في وقت واحد: إخافة السكان لفرض وقائع ميدانية على الحدود، إبقاء حـ.ـزب الله تحت الضغط والاستنزاف، وإرسال رسائل سياسية تتناغم مع أجندة اميركية أوسع تجاه لبنان. هذه العناصر مجتمعة تفسر طبيعة التصعيد الذي حصل أمس، وتكشف أن الجنوب لا يزال ساحة مفتوحة أمام رسائل متبادلة تتجاوز إطار الميدان لتدخل في حسابات السياسة الإقليمية والدولية.