
مفاجئًا في الشكل والمضمون جاء العـ.ـدوان الإسرائيلي “المباغت” على العاصمة القطرية الدوحة، تحت عنوان استهداف قيادات حركة حمـ.ـاس، التي كانت تناقش، للمفارقة ووفق الرواية الإسرائيلية، مقترحًا أميركيًا لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وكأنّ تل أبيب أرادت من خلاله أن تطلق النار للمرّة المئة ربما على كلّ مساعي إنهاء الحرب، وأن تقرن ذلك برسائل “نارية” تتنصّل من خلاله من كلّ “الخطوط الحمر” التي كان يُعتقَد أنّها لا تزال سائدة.
في الشكل، جاء العـ.ـدوان مفاجئًا لأنّه خرج عن كلّ قواعد الاشتباك التقليدية، وتجاوز كل الخطوط الحمر التي كانت تضبط سلوك إسرائيل حتى في أعتى مراحل التصعيد، وفي المضمون لأنّه استهدف الدولة التي لعبت الدور الأبرز على خط الوساطة الدبلوماسية منذ السابع من تشرين الأول 2023، من أجل فتح ثغرة في جدار الحرب ومحاولة التوصل إلى تسوية توقف نزيف الدم المتواصل منذ عملية “طوفان الأقصى” الشهيرة.
من هنا، يطرح هذا التطور الميداني الخطير إشكالية أساسية تتعلق بالدلالات والرسائل التي أرادت إسرائيل إيصالها عبر ضربتها المباغتة في قلب الدوحة، في لحظة سياسية شديدة الحساسية، علمًا أنّ الولايات المتحدة، الحليف الأول لتل أبيب، سارعت إلى النأي بنفسها عن أي دور أو مسؤولية مباشرة، في محاولة لتفادي الانعكاسات على علاقتها مع الدوحة، التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة.
الأهداف مشرّعة بلا حدود؟
لا شكّ أنّ الرسالة الأبرز التي تبعثها إسرائيل من خلال استهداف قيادات حمـ.ـاس في قطر، بمعزل عن نجاح العملية وفق تقديرات تل أبيب من فشلها وفق ما أعلنته الحركة، تتمثل في أنّ تل أبيب باتت تعتبر كلّ الأهداف مشرّعة أمامها في أي مكان من العالم، من دون قيود أو خطوط حمر. فبعدما درجت على تبرير استهداف خصومها في جغرافيا محدّدة مثل فلسطين ولبنان وسوريا، ها هي تنقل المواجهة إلى دولة خليجية ذات ثقل سياسي ودبلوماسي، من دون أي حسابات.
ولعلّ هذه الرسالة تحديدًا في العـ.ـدوان على الدوحة، تتعزّز بالهجوم الذي سبقها قبل ساعات قليلة فقط، مع الهجوم الذي تعرّضت له إحدى السفن التابعة لهيئة أسطول الصمود العالمي بميناء سيدي بوسعيد في العاصمة التونسية تونس، في دلالة واضحة على أنّ إسرائيل تسعى إلى تكريس معادلة جديدة: فرض هيمنتها على كامل المنطقة، وتوسيع نطاق عملياتها بما يجعلها لاعبًا عابرًا للحدود والقوانين الدولية، بلا حسيب أو رقيب.
ويتجلّى ذلك أيضًا في تصريحات ومواقف المسؤولين الإسرائيليين بعد العـ.ـدوان على الدوحة، حتى إنّ تل أبيب لم تتردّد في “التبنّي الصريح” للهجوم، خلافًا لما كانت تفعله في مراحل سابقة حتى في لبنان وسوريا، حين كانت تمتنع عن تأكيد أو نفي مسؤوليتها، ولفت في هذا الإطار قول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن “أيام الحصانة قد ولّت”، وهو ما يؤكد نية تل أبيب رسم قواعد اشتباك جديدة، عنوانها التحرّر من كل الضوابط والالتزامات.
هل تتمدّد الحرب إلى المنطقة؟
بعيدًا عن رسائل تل أبيب من الهجوم، كان من البديهي أن يثير الحدث غير المسبوق مخاوف واسعة من انزلاق المنطقة برمتها إلى حرب شاملة، في وقت كانت الجهود منصبّة على إنهاء الحرب على غزة أو على الأقل تحييدها عن التوسع. فاستهداف دولة بحجم قطر، بما لها من علاقات دبلوماسية واسعة ودور محوري في الوساطة، قد يدفع أطرافًا إقليميين إلى إعادة النظر في مقاربتهم للصراع، بل ربما في خياراتهم الأمنية.
إلى ذلك، فإنّ ما يُتداول عن فشل العملية الإسرائيلية في تحقيق أهدافها ضد قادة حمـ.ـاس في الدوحة، خصوصًا مع حركة حمـ.ـاس في بيان رسمي نجاتهم من محاولة الاغتيال الإسرائيلية، قد تكون له انعكاسات إضافية، علمًا أنّ تجاهل تل أبيب للتحذيرات الدولية، واندفاعها نحو استباحة دولة حليفة للغرب، سيعقّد حتمًا مسار أي تسويات سياسية مقبلة، بل إنّ النتيجة المباشرة |للعـ.ـدوان يرجَّح أن تكون تجميدًا كاملاً للمفاوضات.
وبين هذا وذاك، يعيد العـ.ـدوان على قطر إلى واجهة المشهد السياسي، النقاش حول شرعية الدور الإسرائيلي في المنطقة. فإذا كانت تل أبيب ترى نفسها فوق القانون الدولي، وتعتبر أنّ لها الحق في ضرب أهداف في أي مكان، فإنّ ذلك يعني عمليًا إلغاء مفهوم السيادة الوطنية للدول الأخرى، وهو ما يشكّل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، ويفتح الباب أمام دوامة من الفوضى يصعب ضبطها، خصوصًا في ظلّ الموقف الأميركي “الملتبس” من كلّ ذلك.
في المحصلة، يشكّل العـ.ـدوان الإسرائيلي على دولة قطر لحظة مفصلية في الصراع القائم، ليس فقط من زاوية الاستهداف المباشر لقيادات حمـ.ـاس، بل أيضًا بما يحمله من دلالات على تغيّر قواعد الاشتباك وانهيار الخطوط الحمر. هو حدث قد يفتح الباب أمام مرحلة أشد خطورة، تُسقط معها آخر الأوهام عن إمكانية حصر الحرب في نطاق غزة وحدها، وتدفع المنطقة نحو معادلة جديدة عنوانها التمدد والهيمنة.