تواجه الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة تحولات غير مسبوقة، تعكس تغيرات عميقة في نمط الحياة والقدرة على التكيف مع الظروف الاقتصادية المتسارعة. وفي ظل تصاعد القلق بين الأسر بسبب تكاليف المعيشة وأسعار الخدمات الأساسية، تجد هذه الشريحة نفسها أمام تحديات يومية تضع أعباءً إضافية على قدرتها في التخطيط المالي للمستقبل.

صيف التشاؤمبحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، كان صيف هذا العام صيفاً للتراجع في الثقة لدى الأميركيين من الطبقة المتوسطة. فقد انخفضت ثقة المستهلك بنحو 6 في المئة خلال آب، بعدما سجلت ارتفاعاً في حزيران وتموز، وفقاً لمؤشر جامعة ميشيغان. وزاد التشاؤم حيال سوق العمل، إذ توقع عدد متزايد من المستطلعين انخفاض دخلهم، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة “كونفرنس بورد”.الطبقة المتوسطة، التي تشمل الأسر ذات الدخل السنوي ما بين 53 ألفاً و161 ألف دولار، لعبت دوراً محورياً في هذا التراجع. وبعد أشهر من تزايد ثقة أصحاب الدخل المرتفع بالاقتصاد، شهدت الأسر التي يتراوح دخلها بين 50 و100 ألف دولار تحولاً مفاجئاً في موقفها خلال حزيران، لتصبح أقرب في مزاجها إلى أصحاب الدخول المنخفضة، بحسب شركة “مورنينغ كونسلت”.انكماش الطبقة المتوسطةتتزايد الدلائل على انكماش هذه الشريحة. فقد أكد رؤساء تنفيذيون في قطاعات المطاعم والتجزئة والأزياء والطيران أن عملاءهم من الطبقة المتوسطة يعانون من ضائقة مالية متنامية، رغم استمرار أصحاب الدخول المرتفعة في الإنفاق.ويرى جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، أن ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة رفعا تكاليف السكن إلى مستويات تستهلك جزءاً كبيراً من دخول الأفراد، مما يصعّب على كثيرين تأمين مسكن جديد. يضاف إلى ذلك غياب الاستقرار الوظيفي، مع تسريح شركات عدة لموظفيها، في وقت تتراجع فيه فرص العمل الجديدة، ما يفاقم الضغط على هذه الفئة.ومن أبرز التحديات أيضاً تكاليف الرعاية الصحية، إذ لم تعد الطبقة المتوسطة تشعر بالأمان الصحي مع تقلص برامج الدعم، فضلاً عن النمو السريع في الديون المرتبطة ببطاقات الائتمان، التي أصبحت عبئاً إضافياً بسبب ارتفاع أسعار الفائدة والرسوم المصاحبة لها.الاقتصاد على أكتاف الأثرياءتقرير آخر لـواشنطن بوست” أشار إلى أن الاقتصاد الأميركي يعتمد بشكل متزايد على شريحة صغيرة من الشركات العملاقة والمستهلكين الأثرياء. فهؤلاء وحدهم قادرون على الصمود أمام ضغوط الرسوم الجمركية، ما يزيد من مخاطر الانكماش ويترك الطبقة المتوسطة في حالة إحباط وتوتر.وبحسب وكالة موديز، يسيطر الآن أعلى 10 في المئة من أصحاب الدخل على نحو نصف الإنفاق، مقارنة بـ36 في المئة قبل ثلاثة عقود. هؤلاء، ممن تصل دخولهم إلى 250 ألف دولار أو أكثر، يعيشون أوضاعاً مريحة مدعومين بمكاسب قوية في أسواق الأسهم وارتفاع أسعار العقارات، ويواصلون الإنفاق على الفعاليات والعطلات الباذخة، ما يخفي عمق الأزمة التي تعيشها الطبقة المتوسطة.تحول ملحوظيرى الدكتور علي الإدريسي، أستاذ الاقتصاد الدولي، أن الطبقة الوسطى الأميركية شهدت تحولاً جوهرياً في السنوات الأخيرة. فبعد أن كانت رمزاً للاستقرار الاقتصادي، أصبحت تعاني من ضغوط تدفعها لتقليص الإنفاق وإعادة ترتيب الأولويات.ويشير الإدريسي إلى أن التضخم وارتفاع الأسعار منذ جائحة كورونا رفعا كلفة السلع والخدمات بشكل دائم، فيما بقيت الأجور الحقيقية عاجزة عن مجاراة هذه الزيادة. كما أدى ارتفاع تكاليف الإسكان والفائدة إلى تضييق الخناق أكثر، حيث زادت كلفة القروض العقارية وقروض المستهلكين.ويضيف أن تفاوت الأجور، إلى جانب ارتفاع تكاليف التعليم والرعاية الصحية، عمّق من شعور الأسر بالعجز. فالكثير منها بات مضطراً للاقتطاع من الادخار أو الإنفاق الترفيهي، بينما يواصل أصحاب الدخول المرتفعة الاستفادة من أسعار الفائدة عبر استثماراتهم، ما يعمّق الفجوة الاجتماعية.مستقبل غامضتظل الطبقة المتوسطة الأميركية محوراً أساسياً لفهم الاقتصاد الوطني، إذ يعكس وضعها المالي قدرة المجتمع على التكيف مع الأزمات. وأي تغير في ثقتها أو إحساسها بالأمان المالي قد يترك أثراً مباشراً على معدلات الاستهلاك والاستثمار، وبالتالي على مستقبل الاقتصاد الأميركي ككل.اليوم، تجد الأسر متوسطة الدخل نفسها أمام واقع جديد يفرض إعادة ترتيب الأولويات وتقليص الإنفاق حتى على أساسيات الحياة اليومية، في مشهد يثير تساؤلات عميقة حول قدرة هذه الفئة على الصمود والحفاظ على توازنها بين الطموحات والضغوط المتزايدة.