في قلب الثورة الصناعية البريطانية، يجد مصنع بريدجنورث للألومنيوم نفسه أمام معضلة فريدة، إذ أنفق ملايين الجنيهات الإسترلينية لتأمين الطاقة لمصنعه، والحد من بصمته الكربونية، في الوقت الذي تواجه فيه المملكة المتحدة واحدة من أعلى تكاليف الكهرباء في العالم.

لكن الوضع يصبح معقدًا عندما ينخفض استهلاك المصنع عن الحد الأدنى المطلوب للحصول على الدعم الحكومي، فيضطر المصنع إلى تشغيل جميع المرافق مرة أخرى لتجنب خسارة العائد المالي، حتى لو لم تكن هناك حاجة فعلية للطاقة.قال أدريان موسغريف، رئيس المبيعات في بريدجنورث، إن المسؤول المالي للمصنع أوصى في نهاية العام بإبقاء الأنوار مضاءة لفترة أطول قليلًا، حتى لو لم تكن هناك فائدة تشغيلية مباشرة. هذا التناقض يعكس الواقع الصعب الذي تواجهه الشركات الكبرى كثيفة الاستهلاك للطاقة في بريطانيا، وسط أسعار كهرباء عالية ودعم حكومي جزئي.ووفق وكالة الطاقة الدولية، دفعت الشركات البريطانية الكبيرة ما يقارب أربعة أضعاف تكلفة الكهرباء مقارنة بالشركات الأميركية، وأكثر من ضعف ما دفعته نظيراتها في فرنسا وألمانيا. هذا الواقع أثّر ليس فقط على القدرة التنافسية، بل ساهم أيضًا في استمرار ارتفاع معدلات التضخم، وعرقل الانتقال إلى طاقة أنظف وتحقيق هدف الحكومة بالوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول 2050.وأكدت شخصيات بارزة في قطاع الطاقة، من ضمنهم أصحاب الأعمال ومديرو الطاقة وخبراء السياسات، أن ارتفاع تكاليف الكهرباء حدّ من سيولة الشركات اللازمة للاستثمار في آلات أكثر كفاءة ومصادر طاقة منخفضة الكربون. وقالت راشيل سولومون ويليامز، رئيسة مجموعة ألديرزجيت المتخصصة في سياسات التخلص من الكربون، إن أسعار الكهرباء تمثل العقبة الرئيسية أمام تحقيق صافي انبعاثات صفري في المملكة المتحدة حاليًا.تجدر الإشارة إلى أن أسعار الكهرباء في بريطانيا تُحدد دائمًا وفق تكلفة استخدام الغاز الطبيعي، الأغلى ثمناً، بحيث إذا كانت هناك حاجة لتشغيل محطات غاز لضمان تلبية الطلب بنسبة 100%، فإن الغاز هو الذي يحدد سعر الجملة لكل مشتريات الكهرباء، حتى مع توليد الطاقة بنسبة 99% من الرياح والشمس والطاقة النووية. بالإضافة إلى ذلك، يشمل جزء كبير من فواتير الكهرباء تمويل بناء مصادر الطاقة المتجددة وتحديث شبكة الكهرباء، حيث تمثل رسوم التحول نحو الطاقة النظيفة نحو 40% من إجمالي الفاتورة.ولتخفيف الأعباء على الصناعات كثيفة الاستهلاك، اقترحت الحكومة البريطانية إلغاء 90% من رسوم شبكة الكهرباء لهؤلاء المستخدمين، بدلًا من 60% فقط الحالية. يُعفى المصنعون الذين ينفقون أكثر من 20% من ناتجهم الاقتصادي على الطاقة من رسوم التحول ومعظم تكاليف الشبكة، وهو ما يجعل بريدجنورث يراقب إنتاجه بدقة لتجنب خسارة حوالي 3 ملايين جنيه إسترليني سنويًا من الدعم.قال دنكان إلدريدج، الرئيس التنفيذي لبريدجنورث: “كان الخيار الأرخص هو بناء محطة توليد تعتمد على الغاز، وبالتالي الاستمرار في دفع ثمن الغاز لتجنب رسوم تكاد تصل إلى 60% من فواتير الكهرباء. هذا الوضع جنوني، لأن هيكل السوق يشجعني على إنشاء محطة تعمل بالغاز، في حين أن المستقبل للطاقة المتجددة”.وفي العاصمة الويلزية كارديف، تتبع شركة (7) للصلب نهجًا مختلفًا. الشركة تستخدم فرنًا كهربائيًا لصناعة الفولاذ، وعندما ترتفع تكاليف الكهرباء بشكل مبالغ فيه، تُطفئ الشركة فرنها، متوقفة عن الإنتاج أحيانًا لأيام متتالية. العام الماضي، عمل الفرن بنسبة 70% فقط من طاقته بسبب ارتفاع التكاليف وتباطؤ الطلب. وأكدت غابرييلا نظام، رئيسة قسم الاستدامة في الشركة، أن “خطة خفض الكربون في المملكة المتحدة تعتمد على قطاع الصلب تحديدًا، لكن يبدو أننا لم نستوعب هذا المفهوم جيدًا”.على الرغم من ذلك، حققت بريطانيا نجاحات مبكرة في تقليل الانبعاثات، من خلال بناء أحد أكبر قطاعات طاقة الرياح في العالم والتخلص التدريجي من الفحم خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وتهدف الآن إلى توليد 95% من الكهرباء المحلية من مصادر منخفضة الكربون بحلول 2030.لكن الانتقال إلى صافي انبعاثات صفري يحتاج أيضًا إلى تحويل قطاعات التدفئة والنقل والتصنيع من الوقود الأحفوري، وهي قطاعات يثنيها ارتفاع تكلفة الكهرباء. فقد صرحت شركة نيسان اليابانية أن مصنعها البريطاني يعاني أعلى تكاليف كهرباء بين منشآتها حول العالم، ما يهدد قدرتها على إنتاج السيارات الكهربائية محليًا.هذا الواقع يعكس تعقيدات الانتقال للطاقة النظيفة في بريطانيا، حيث التوازن بين تكاليف الطاقة والتشجيع على الاستدامة أصبح تحديًا حقيقيًا يهدد القدرة التنافسية للصناعة البريطانية ويجعل تحقيق أهداف صافي الانبعاثات صفري أكثر صعوبة.(رويترز)