
د. رائد غانم
جريدة الحرة ـ بيروت
قبل سقوط نظام الأسد، وعلى امتداد أكثر من عام، كانت ساحة الكرامة في قلب السويداء مركزًا لحراك شعبي سلمي حمل مطالب واضحة كان أبرزها تغيير نظام الأسد أملًا بنظام تشاركي جديد يوفر للشعب السوري الحرية والكرامة والعدالة، في وقت كانت فيه البلاد تعيش حالة من الركود، فيما بدا وكأنه نوع من الاستسلام لفكرة بقاء نظام الأسد. في تلك المرحلة، برزت تباينات واضحة بين مواقف شيوخ العقل الثلاثة.
تبنّى الشيخ حكمت الهجري مطالب الحراك السياسيّة والاقتصاديّة بموقف ثابت وصلب، ما عزز حضوره كرمز وطني يحظى باحترام واسع في الأوساط السورية وخاصة السنية، وأعطى الحراك زخمًا محليًّا ودوليًا لما يحمله منصب شيخ العقل، وبخاصة المقعد الهجري، من ثقل تاريخيّ في وجدان دروز سوريا. وبينما اتخذ الشيخ حمود الحناوي موقفًا شبيهًا بالشيخ الهجري ولكن أقل حدة، أيّد الشيخ جربوع مطالب الحراك الشعبي الاقتصادية ونأى بنفسه عن مطالبه السياسيّة الداعية لتغيير النظام، فاستمر بتأييد نظام بشار الأسد، رغم بعض النقد المتقطع للسلطة وعجزها عن تأمين الحدّ الأدنى من مقومات العيش الكريم. هذه المواقف المتباينة عززت شعبية الشيخ الهجري، فيما تراجعت صورة جربوع بين قطاعات واسعة من الرأي العام في جبل الدروز.
ما بعد سقوط النظام: عودة التاريخ بأقنعة جديدة
مع سقوط نظام الأسد، حاول أحمد الشرع، المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني، بسط نفوذه على الجنوب السوري متأثرًا بنماذج الحكم المركزية المهيمنة. وفي خطوة غير مدروسة أعادت إلى الأذهان ما فعله أديب الشيشكلي في خمسينيات القرن الماضي، أرسل في ليلة رأس السنة رتلًا عسكريًا إلى السويداء تحت جنح الظلام. قوبلت هذه الخطوة برفض قاطع من الأوساط الشعبية بقيادة الشيخ الهجري، استحضر تاريخ أبناء الجبل في مقاومة كل محاولات الإخضاع، وعبّر عن هواجس واقعيّة عميقة تجاه النظام الجديد نتيجة مجازر جبهة النصرة بحق الدروز في جبل السماق بمحافظة إدلب وفي حضر في محافظة القنيطرة قبل سنوات.
ردًا على هذا الرفض، شن الإعلام الرسمي التابع للحكومة المؤقتة حملة شيطنة ضد الشيخ الهجري، بالتوازي مع محاولة تلميع شخصيات ميليشياوية هامشية مثل ليث البلعوس وسليمان عبد الباقي، وتقديم الشيخين وخاصة جربوع — حليف الأسد سابقًا — بصورة إيجابية، شيخان مواليان للنظام الجديد. وفي خضم هذا التصعيد الإعلامي، كان الهجري يكرر دعوته إلى دولة مدنية ديمقراطية تحترم التنوع وتقوم على سيادة القانون، ما جعله هدفًا لحملات تشويه إعلامي اتسمت بالتحريض والمناكفات الطائفية.
كانت تغطية الإعلام الرسميّ لمواقف الشيخين الحناوي وجربوع انتقائية، إذ كانت تضيء على الانفتاح الذي يظهرانه على النظام وحضوره المؤسساتي في محافظة السويداء، وتعتّم على تبنيهما مطالب الشيخ الهجري ذاتها بإقامة دولة مدنية تشاركيّة تقوم على المساواة وسيادة القانون، وتبنيهما أيضًا المطالب الشعبيّة في محافظة السويداء بالإدارة الذاتية التي تجسدت باتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى النزاع المسلح بين دروز الغوطة والنظام في شهر آيار الماضي. فقد نصّ الاتفاق الذي رعاه شيخا العقل المذكوران على “تفعيل قوى الأمن الداخلي من أفراد سلك الأمن الداخلي سابقًا وتفعيل الضابطة العدلية من كوادر أبناء محافظة، وتأمين طريق دمشق – السويداء وضمان سلامته وأمنه تحت مسؤولية الدولة السورية”؛ ما يعزز الإدارة الذاتية في الجبل ويمنع حصاره العسكري والاقتصادي.
13 يوليو: نقطة تحوّل
في 13 يوليو 2025، دخلت قوات الحكومة المؤقتة وميليشيات مرتبطة بتنظيم داعش — بحسب صور وشهادات موثّقة — إلى السويداء، ما أدى إلى مجازر بحق المدنيين، خاصة في الريف الغربي. انسحبت تلك القوات لاحقًا، وعادت السيطرة لأبناء المدينة، لكن الآلة الإعلامية لم تتوقف عن التحريض، بل بلغت مستويات غير مسبوقة في محاولة تصوير الشيخ الهجري كقوة تستحوذ على القرار، متّهمة إياه بمصادرة صوت الشيخين الحناوي وجربوع في محاولة لضرب وحدة الصف الدرزي من الداخل.
في المقابل، انشغل الإعلام الموالي للشرع بمغازلة الشيخين الحناوي وجربوع، بل وتلفيق الأخبار عن مصير الأخير بعد الانسحاب، في محاولة لتقليب الرأي العام على الشيخ الهجري وزرع فتنة داخلية في جبل الدروز أملًا بإعادة رسم خريطة الولاءات داخل الطائفة.
9 آب: سقوط رواية الانقسام
في تطور مفصلي، ظهر مشايخ العقل الثلاثة في 9 يوليو في بيانات مصورة منفصلة، لكن بمضامين متقاربة أكدت:
إدانة الجرائم التي ارتكبتها قوى “الحكومة المؤقتة” وميليشياتها بحق المدنيين، واعتبارها انتهاكات فظيعة تخالف القوانين الإنسانية والأخلاقية والدولية.
المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية حيادية ومستقلة للكشف عن حقيقة ما جرى في السويداء من انتهاكات بحق المدنيين.
تحميل الدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار مسؤولياتها في حماية المدنيين وضمان تنفيذ الاتفاق، ووقف الانتهاكات المستمرة له من قبل النظام.
توجيه الشكر إلى الدول والهيئات والأشخاص، وفي مقدمتهم الشيخ موفق طريف، في إشارة واضحة إلى وحدة الموقف والمصير.
التشديد على وحدة الصف الدرزي في السويداء، ونبذ الخلافات، وضرورة التكاتف والتعاون لتجاوز الأزمة الإنسانية والاقتصادية التي حلّت بالمحافظة نتيجة العدوان الغاشم الذي شنّته “الحكومة المؤقتة” وفصائل البدو الموالية لها.
مع صدور بيانات مشايخ العقل الثلاثة في 9 آب، التي جسدت وحدة أبناء جبل الدروز وقياداتهم في مواجهة “الحكومة المؤقتة” وممارساتها العدوانية والعنفية، تهاوى الخطاب الإعلامي والسياسي الذي حاول تصوير الطائفة الدرزية في السويداء وكأنّها كتلة منقسمة ومتنازعة، وتلقّت سردية الإعلام الرسمي السوري ضربة قاصمة. فقد أدرك المتابع المحايد أن هذا الإعلام، الذي تبنّى منذ بداية الأحداث خطابًا منحازًا ومشحونًا بالتحريض الطائفي وتزييف الحقائق، قد فَقَدَ الحد الأدنى من الموضوعيّة والمصداقية في نقل الواقع الفعلي في السويداء. ولم يقتصر أثر هذا الانكشاف على الداخل السوري، بل طال الإعلام العربي والدولي، الذي اكتشف متأخرًا تضليل الإعلام الرسمي والموالي، فأصبح أكثر حذرًا في تبنّي الرواية الرسمية السورية، وأكثر انفتاحًا على الأصوات المعارضة، إدراكًا لخطورة الاعتماد على معلومات مغلوطة في قضايا ذات تبعات إنسانية وسياسية بالغة.