
استهداف الضاحية الجنوبية: رسائل صاروخية تتخطى حزب الله وتضع الدولة اللبنانية على المحك
في مشهد غير مسبوق، قصفت إسرائيل مؤخرًا الضاحية الجنوبية لبيروت، موقعةً دمارًا هائلًا، طالت خلاله عشرات المباني السكنية،
في خطوة اعتبرها المراقبون تصعيدًا خطيرًا لا يستهدف حزب الله فحسب،
بل يحمل في طيّاته رسائل تتخطى الحزب، لتطال الدولة اللبنانية ومؤسساتها السيادية مباشرة.
القصف لم يكن حادثًا عرضيًا في سياق المواجهات المستمرة على الجبهة الجنوبية،
بل مثّل تحولًا نوعيًا في سياسة إسرائيل العسكرية تجاه لبنان، تمّ تحت غطاء دولي مكشوف.
العميد المتقاعد جورج نادر وصف هذا التصعيد بأنه خرق فاضح للخطوط الحمراء المتعارف عليها،
مؤكداً أن إسرائيل لم تعد تفرّق في استهدافاتها بين “حزب الله” والدولة اللبنانية.
هذا الرأي تقاطع مع مصادر وزارية تحدثت لصحيفة “الشرق الأوسط”،
أبدت خشيتها من انكفاء واشنطن عن لعب دور الضابط للاندفاعة الإسرائيلية،
ما يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر سوداوية، تكرّس تفكك الدولة وتحوّل لبنان إلى ساحة مستباحة بالكامل.
ما يثير القلق أكثر، هو أن إسرائيل أبلغت مسبقًا الجانب الأميركي بنيّتها قصف الضاحية الجنوبية،
متذرعة بوجود مصانع لتصنيع المسيّرات الإيرانية تابعة لحزب الله في الطوابق السفلية من المباني المستهدفة.
غير أن هذه الادعاءات، بحسب مصادر رسمية لبنانية، ثبت أنها لا تستند إلى أدلة ميدانية،
مما دفع واشنطن إلى توجيه لوْم ناعم لتل أبيب، دون أن يصاحبه أي ضغط فعلي لوقف الانفلات العسكري الإسرائيلي.
وهنا يُطرح السؤال، هل أصبحت الدولة اللبنانية مجرّد متلقٍ للضربات، وعاجزة عن الدفاع عن سيادتها؟
هذا السؤال يُطرح اليوم بحدة في الأوساط السياسية اللبنانية، لا سيما في ظل غياب أي رد رسمي فاعل،
أو حتى موقف دبلوماسي صارم، يعبّر عن حجم الكارثة التي ألمّت بالضاحية الجنوبية،
والتي تعتبر من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العاصمة.
ازدواجية الموقف الأميركي
اللافت أن الإدارة الأميركية، ورغم توجيهها لومًا لإسرائيل على خلفية استهداف المباني السكنية، لم تبادر إلى اتخاذ خطوات عملية لردعها أو منع تكرار هذه الخروقات.
بل يُنظر إلى هذا اللوم كنوع من ذرّ الرماد في العيون، يهدف إلى تجميل المشهد أمام الرأي العام الدولي،
بينما تُمنح إسرائيل الغطاء الكامل لمواصلة سياسة الضغط الميداني، تمهيدًا لفرض أجندة سياسية تتعلّق بسلاح “حزب الله” وواقع السيادة اللبنانية.
فالمعادلة الأميركية واضحة: لا انسحاب إسرائيلي من جنوب لبنان من دون جدول زمني واضح لسحب سلاح الحزب، وربطه بعملية “بسط سيادة الدولة”.
لكن الواقع يقول إن هذا الربط هو وصفة جاهزة لانفجار داخلي، في بلد تتداخل فيه الحسابات الطائفية والسياسية، وتتصادم فيه الولاءات الإقليمية.
الصمت الرسمي بعد استهداف الضاحية الجنوبية عجز أم تواطؤ؟
حكومة نواف سلام ورئاسة العماد جوزاف عون تلتزمان بالموقف الرسمي الداعي لحصر السلاح بيد الدولة.
لكن هذا الالتزام لا يُترجم على الأرض، ولا يترافق مع خطة تنفيذية واضحة، ما يطرح علامات استفهام حول جدية هذه التصريحات، أو قدرتها الفعلية على إخضاع الحزب لمنطق الدولة.
فهل نحن أمام حالة عجز، أم أمام تواطؤ مقنّع يهدف إلى تأجيل المواجهة الحتمية مع الحزب تحت شعار “الحوار الوطني”؟
“حزب الله” والحوار المؤجَّل
الحزب من جهته يروّج لاستعداده للحوار، لكنه لا يبدي أي بوادر حقيقية للتنازل عن سلاحه، ويراهن على الوقت، وعلى نتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية، معتقدًا أن الزمن ما زال يلعب لصالحه.
غير أن الواقع الإقليمي تغيّر، وما بعد دعم غزة ليس كما قبله، وقد أدرك الحزب هذا جيدًا مع رد الفعل الإسرائيلي العنيف على الضاحية.
وتؤكد مصادر وزارية أن الحوار مع الحزب لا يمكن أن يبقى مفتوحًا إلى ما لا نهاية، وأن الدولة اللبنانية، إذا كانت جادة فعلًا في استعادة قرارها السيادي،
فعليها أن تضع إطارًا زمنيًا واضحًا لهذا الحوار، وأن تربط نتائجه ببرامج إصلاحية أمنية وسياسية شاملة.
لجنة الرقابة.. وظيفة معطّلة بعد استهداف الضاحية الجنوبية
أما لجنة الرقابة الدولية على وقف إطلاق النار، فباتت اليوم أقرب إلى مؤسسة رمزية عاجزة عن لعب دورها.
فالتصعيد الإسرائيلي يتم أمام أعينها، والخروقات تتكرر بشكل شبه يومي، فيما الجيش اللبناني يلوّح بعدم التعاون معها في حال تأكد استخدامها كغطاء لتبرير الاعتداءات.
لبنان، الذي يُعوّل على صيف هادئ لإنعاش اقتصاده المنهار، يجد نفسه في قلب عاصفة عسكرية وسياسية، تُهدد ليس فقط أمنه، بل وجوده كدولة.
ففي ظل غياب الضمانات الدولية، وانكفاء الدور الأميركي، وتمادي إسرائيل، وصمت الأمم المتحدة، تبدو بيروت أمام اختبار وجودي خطير.
رسائل إسرائيلية مزدوجة
الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هذا التصعيد تتخطى “حزب الله” إلى كل من إيران والدولة اللبنانية. الرسالة الأولى موجهة إلى طهران: “بيروت لم تعد ساحة نفوذ إيراني آمنة”.
والثانية للحزب: “قواعد الاشتباك تغيّرت، والعودة إلى ما قبل دعم غزة لم تعد واردة”.
وهي بذلك تُعيد خلط الأوراق الإقليمية، مستفيدة من حالة الشلل اللبناني، ومن الغطاء الدولي الممنوح لها.
زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت لم تخرج عن إطار المجاملات الدبلوماسية، ولم تتطرّق إلى البنود الساخنة،
وهو ما فُسّر على أنه اعتراف ضمني بتغيّر قواعد اللعبة، وأن إيران باتت مستعدة لطوي صفحة تدخلها العلني في لبنان، والتركيز على ملفات أكثر أولوية.
لبنان على مفترق مصيري
لم يعد من الممكن تجاهل الواقع: الدولة اللبنانية تنهار، والمجتمع الدولي يتعامل معها ككيان هش بلا سلطة فعلية.
أما “حزب الله”، فهو أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانخراط الجاد في مشروع الدولة، أو مواجهة عزلة داخلية وخارجية متصاعدة.
وفي الوقت نفسه، تبقى إسرائيل جاهزة لاستثمار كل نقطة ضعف لبنانية، أمنياً وسياسياً، لفرض شروطها على الجميع.
المطلوب اليوم ليس فقط حواراً بين الدولة والحزب، بل رؤية وطنية شاملة تعيد تعريف مفهوم السيادة، وتضع حدّاً لحالة التفكك المؤسسي الذي يسمح لكل الأطراف – الداخلية والخارجية – بالتلاعب بمصير لبنان.